بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

لاجئون... لكنهم عائدون

حتى مساء أول من أمس (الاثنين)، فاق عدد مَنْ أصبحوا يحملون وصف «لاجئين» مِن أهل أوكرانيا رقم مليون ونصف المليون. أولئك كانوا، قبل بضعة أيام، كما غيرهم من البشر العاديين، في مختلف أنحاء العالم، يُمسون في بيوتهم آمنين، ثم يصبحون غير خائفين على أنفسهم، ولا مرعوبين على أطفالهم، بل مستبشرين بيوم جديد يحمل لهم الخير، ولأحبائهم، ولكل جيرانهم، ولكل الأخيار بكل مكان. انظر، كم تتغير أحوال أناس بين الناس أجمعين، خلال لحظات لعلها لم تكن في حسبان أحد على الإطلاق. لكن، أليس هذا هو حال الأزمان كلها، منذ بِدء الخلق، ومُذ بدء تداول الأيام بين أبناء آدم وحواء كافةً؟ بلى، ثم الأرجح أن يتواصل تدفق مهاجري أوكرانيا، وأن تتعرض قوافلهم للقصف، فتقع ضحايا بينهم، الأمر الذي سيرفع عدد قتلى الحرب المدنيين. سوف يستمر هذا الوضع ما دام أن مفاوضات توفير الممرات الآمنة لطوابير اللاجئين تتعثر، ومثلها أيضاً التفاوض الفاشل على وقف إطلاق النار.
بالطبع، هي الحروب هكذا، منذ اشتعل أوار أول حرب على أديم هذا الكوكب، وما الحرب الروسية - الأوكرانية أولاها، والمرجح، وربما المؤكد، أنها ليست آخرها. إنما، منذ انفجار ثورة الاتصالات، التي أطل معها زمن عالم جديد أزاح كل ما يفصل بين المتلقي والمعلومات من الحدود، اختلف الوضع تماماً، ففي كل مرة تنفجر حرب، تراها تجد طريقها، بأسرع مما تصوّر البعض، إلى كل بيت، تقريباً، بكل بقاع الأرض، ويصبح أطرافها حاضرين، برضى الآخرين، أو رغماً عنهم، في المنازل، في المقاهي، في المطاعم، فهي موضوع أحاديث موائد العشاء، ومناقشات مجالس المهتمين، خصوصاً المتتبعين مسار الأحداث، والمتحسبين لما تحمل من تأثيرات في اتجاهات متباينة، أولها أسعار الأسهم والسندات، وما قد يزلزل بورصات العالم من كوارث وهزات. ذلك كله متوقع، والغريب في الأمر أن توقعاً كهذا يكاد يقترب من الوضع الاعتيادي. حقاً، صار من المعتاد أن تسمع من يجيب على أي استغراب قائلاً: هذا أمر عادي، لماذا العجب؟
في أغلب الأحيان، الاكتفاء بالصمت سوف يكفيك متاعب الدخول في جدل لن ينتهي إلى أي توافق، ولا حتى على مبدأ «الاتفاق على ألا نتفق». مثلاً، تخيل ما الرد الذي قد يأتي على استغراب رؤية المفاوضين الروس، ببذلات أنيقة، وربطات عنق، مقابل نظرائهم الأوكرانيين، بلباس قتالي، يتبادلون الابتسامات، ويتصافحون، ثم يجلسون، وبعد لحظات يغادرون بلا اتفاق، فتكاد تشهق قائلاً: إنْ لم تكن هذه واحدة من أبهى تجليات «السريالية» خلال مأساة حرب تطحن الأبرياء، فماذا تكون؟ رُبّ قائل يجيب بأن لياقات التحضر تفرض على الساسة المدنيين، زعماء المتحاربين، إذا التقوا أن يبتسموا، وأن يتصافحوا، وبحماسة أحياناً، ثم لماذا تذهب بعيداً، أما تصافح زعماء الفلسطينيين مع نظرائهم الإسرائيليين، وتبادلوا الابتسامات أمام كاميرات العالم أجمع؟
نعم، حصل هذا. أتراه، في كل الحالات، تبسم الضعيف المقهور، أمْ المضطر المغلوب على أمره، أم أنه المغدور الذي افتقد ذراع متعاطف يسنده؟ في المقابل، ماذا عن المبتسم الآخر، أهو منتصر فعلاً، أم هو يخادع نفسه ويخدع الآخرين، ظاناً أنه انتصر حقاً؟ في الأحوال كافة، الزمن وحده كفيل بكشف ما بقي من أسرار علم الغيب. أما وأن الشيء يذكر بشيء، فقد هاتفني الأربعاء الماضي، مشكوراً، من يُذكرني بموقف غاب عن ذاكرتي تماماً. قال المهاتف إنه شاهدني تلميذاً أخطب أمام تلاميذ من مجايليّ فأطالب بتغيير اسم «مدرسة الزيتون للاجئين» في مدينة غزة، إلى «مدرسة الزيتون للعائدين». سألت: حصل هذا أمامك؟ أجاب: نعم، رأيت بعيني، وسمعت بأذني. أمِن عجب، إذنْ، إذا بقي أمل عودة المهاجر، واللاجئ، والمُهجّر، إلى الوطن والبيت والحقل، حياً يسري من النفْس سريان النَفَس، بصرف النظر عن اختلاف الأزمان، وتعدد الأجناس، وتغير المكان؟ كلا، إطلاقاً.