د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

الذاكرة الوطنية للجزائر... مخاوف وإشكاليات

أعادت الجزائر سفيرَها لباريس، بعد ثلاثة أشهر من استدعائه للاحتجاج على تصريحات فرنسية اعتُبرت مسيئة للجزائر وذاكرتها التاريخية، والتي تُعد قضيةً وطنية من طرازٍ رفيع، تُجمِّع الجزائريين كافة على اختلاف أطيافهم السياسية والآيديولوجية؛ فضلاً عن كونها إشكالية كبرى في علاقات الجزائر وفرنسا، وكثيراً ما تسبَّبت في إثارة التوترات وتبادل التصريحات والمواقف الحادة، كالتي حدثت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؛ حين نُسبت للرئيس الفرنسي تصريحات، أنكر فيها وجودَ أمة جزائرية قبل استعمارها من قِبَل بلاده في عام 1830، ومشيراً إلى أنَّ التاريخ الرسمي المكتوب بعد استقلال الجزائر في 1962، تأثَّر بالحكم العسكري، ومليء بالكراهية لفرنسا، ومؤكداً أنْ لا نية لباريس للاعتذار عن الحقبة الاستعمارية.
الرئيس تبون حدَّد الأمر باعتباره حقاً مشروعاً لبلاده في استعادة كامل أرشيفها الوطني، سواء ما تعلق بفترة الاحتلال الكئيبة التي استمرت 132 عاماً، أو ما قبلها طوال فترة الوصاية العثمانية التي تقارب ثلاثة قرون، ويجب أن يصاحبه اعتذار فرنسي وتقديم التعويضات المناسبة، واستعادة رفات المناضلين الجزائريين، والحصول على تعويضات لمن تأثروا بالتفجيرات النووية الفرنسية في الأراضي الجزائرية، فضلاً عن خريطة التفجيرات ذاتها التي استمرت حتى عام 1966، رغم أنَّ استقلال الجزائر كان في عام 1962.
الرؤية الجزائرية على النحو السابق لها شقان: أحدهما سياسي يتعلّق بضرورة إعادة بناء العلاقات مع فرنسا على أسس جديدة، تراعي تجاوز الإشكاليات التاريخية، من خلال إجلاء الحقائق عما فعلته فرنسا خلال الاستعمار من تجارب نووية في الصحراء الجزائرية، وعن الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن حرية بلدهم، ويقدرون بأكثر من 5 ملايين شهيد، والمعاناة والتعذيب الذي تعرض له المعتقلون من المحاربين الجزائريين.
في السياق السياسي تبرز أيضاً دوافع المرحلة التي تمرُّ بها البلاد، من حيث إعادة بناء النظام السياسي بعد مرحلة الرئيس السابق بوتفليقة، من حيث بناء شرعية متكاملة تراعي مطالب الجزائريين بكل أبعادها المادية والمعنوية والتاريخية، مع التخلص التدريجي من بعض إرث النظام السابق؛ لا سيما ما يتعلَّق بالفساد ونهب موارد البلاد.
ولدى بعض السياسيين الجزائريين دافع يتعلَّق بما يعتبرونه تراجع الدور الفرنسي في أفريقيا، ما يستدعي بناء علاقات تختلف جذرياً عن المراحل السابقة التي كان ينُظر فيها إلى فرنسا كبلد أوروبي يقود التحولات، أو يؤثر فيها بقوة في أجزاء كثيرة من أفريقيا، ومنها إقليم المغرب العربي. وأيضاً لمراعاة الدور الأميركي الأكثر اهتماماً في الوقت الحاضر بالوجود المباشر في غرب أفريقيا، والذي يؤثر بأشكال مختلفة في توازنات المغرب العربي كله، من قبيل الاعتراف بمغربية الصحراء، والتغلغل العسكري في عدد من بلدان غرب أفريقيا.
الشق الثاني يتعلَّق بدوافع أكاديمية تهم الباحثين والمؤرخين الجزائريين، وذات تأثير مباشر في سرد التاريخ الجزائري وسدّ ما فيه من ثغرات، ومن ثم تكوين تاريخ حقيقي قائم على الحقائق والقرائن، بعيداً عن الروايات غير الموثقة أو الفاقدة للأدلة اليقينية. وكثير من المؤرخين الجزائريين يرون أن غياب أرشيف فترة الاستعمار الفرنسي وما قبلها، يضع قيوداً كثيرة على قدرتهم على فحص علمي موثوق عند كتابة تاريخ بلدهم؛ فضلاً على اضطرارهم للبحث عن تاريخ بلادهم في المكتبات والجهات الرسمية الفرنسية، ومذكرات بعض الفرنسيين، ومشاهدات الكتاب الفرنسيين الذين زاروا الجزائر أو عاشوا فيها، حين كانت تُعتبر محمية فرنسية، رغم كونها مصادر منحازة وغير محايدة؛ لكنها الدواعي الاضطرارية التي تدفع إلى الاعتماد على مثل هذه المصادر بكل ما فيها من انتقادات.
الضجة التي حدثت في أعقاب تصريحات الرئيس ماكرون عن غياب أمة جزائرية، شكَّلت ضغطاً على باريس، التي قرَّرت الإفراج عن أرشيف الفترة من 1954 إلى 1962، المعروفة بحرب التحرير، والتي شهدت أعلى مراحل المقاومة الشعبية الجزائرية للوجود الاستعماري الفرنسي. ووفقاً لوزيرة الثقافة الفرنسية، فسوف يُرفع الحظر عن أرشيف التحقيقات القضائية لقوات الدرك والشرطة حول حرب الجزائر، قبل 15 عاماً من موعد رفع الحظر القانوني، معتبرة تلك الخطوة مهمة من أجل إنهاء تزوير التاريخ، وبناء رواية وطنية بلا أكاذيب، والتي تجلب المتاعب والكراهية، وتعرقل المصالحة بين البلدين.
مثل هذا التطور، وإن لبَّى جزئياً مطالب جزائرية مشروعة، فإنَّه مُعرَّضٌ للانتقاد الشديد، فاقتصار رفع الحظر عن وثائق تلك المرحلة القضائية والشُرطية، وإتاحتها للمتخصصين فقط، وإن كشف عن سلوك جزئي لسلطات الاحتلال آنذاك، فستظل هناك ممارسات سلطات الاحتلال الأخرى البعيدة عن الشرطة والقضاء. وهي ممارسات لا يمكن الاستغناء عنها عند كتابة التاريخ بصورة شاملة.
وجزء من هذه الممارسات التي وصفت بأنَّها لم تكن معروفة للفرنسيين، وردت في تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا الذي كُلِّف من قبل الرئيس ماكرون بإعداد دراسة عن وقائع الاحتلال الفرنسي للجزائر، كتهجير أكثر من مليوني مزارع من قراهم، واستخدام أسلحة محرمة دولياً، واغتيال معارضين جزائريين، وقمع مظاهرات الجزائريين في أكتوبر 1961، وقتل المتظاهرين، ورمي جثثهم في نهر السين.
النقد الآخر الذي أشار إليه سياسيون جزائريون، تعلَّق بأنَّ هذا الأرشيف الشرطي؛ حيث الاستجوابات والوشايات، والقضائي؛ حيث المحاكمات والشهود، من شأنه أن يفتح أبواباً للضرر في علاقات الأجيال الجزائرية بعضها ببعض، لا سيما أن هناك جزائريين كانوا يتعاونون مع سلطات الاحتلال، وحين تُفتح هذه السجلات، رغم ظروفها الخاصة، فقد تتشكَّل علاقات عدائية غير مطلوبة في هذا التوقيت تحديداً؛ حيث الجهود المبذولة تركز على وحدة الجزائريين في مواجهة مصاعب التنمية والدور الإقليمي.
ويخشى البعض من أن فتح هذه السجلات يمكن أن يمهد لحرب من الجيل الرابع، تستهدف فرط عقد الأمة، ودفعها إلى الاقتتال الأهلي.
الأرشيف المقرر أن تُنزع عنه السريةُ من قِبل الشرطة والاستخبارات الفرنسية، قد لا يكون كاملاً، والمرجح أن ما ستقرر السلطات الفرنسية إتاحته للمتخصصين، سيتعرَّض للفحص والحذف، لاعتبارات تُقدِّرها دوائر الشرطة والاستخبارات، ومن ثم ستفتقد عنصر الشمول، ويسهل توجيه النقد لمحتوياتها.
ويتخوَّف المؤرخون الجزائريون من الاستنتاجات الخاطئة المحتملة، نتيجة الحذف والتشويه الذي قد يحدث للوثائق المسموح بالاطلاع عليها، وما ينتج عن تلك الاستنتاجات من آثار عكسية.
المخاوف الأكاديمية والسياسية تعيد مرة أخرى السؤال حول أي أرشيف تريده الجزائر، وأي أرشيف قد تمنعه فرنسا أو قد تتيحه؟ الجزائر تريد تاريخها كما هو بشموله، وفرنسا ترفض الشمول، وتكتفي بمراحل منتقاة بدقة. وترى أن هناك أرشيفاً سيادياً لا نقاش فيه، وآخر إدارياً يمكن الإفراج عنه. من ثم، ستظل إشكالية الأرشيف الجزائري بؤرة لمزيد من التوترات اللاحقة بين البلدين، ما لم تُعدل باريس موقفها، وتلك بدورها تخضع لتوازنات سياسية داخلية؛ لا سيما أن اليمين الفرنسي يرفض توجيه أي نقد لاحتلال الجزائر.