نسمات من رائحة التفاح وأصوات خطوات على أدراج خشبية وثلوج وبرد شديد، هذا كل ما أذكره من ألمانيا، حتّى إنني لا أذكر اسم المكان الذي كنّا نعيش فيه.
ذاكرة بالأبيض والأسود لطفلة صغيرة تتخبطها خيالات بين دموع وقبلات ودعاءات وحركات على عجل. لم أفقه يومها ماذا كان يحدث عند مدخل بيت جدتي الكائن في مدينة بيروت الشرقية. أطلق عليها هذا الاسم لأن اللبنانيين حينما عجزوا عن أن يتشاركوا هذه العاصمة الصغيرة، بدياناتهم المتنوعة وأحزابهم الكثيرة، شرخوها إلى قسمين، شرقية وغربية.
وفي عام 1978 عدنا من ألمانيا، ووجدت نفسي في بيت جدتي، وكما الوداع كان اللقاء. ولكن هذه المرّة كانت جدتي تعيش في جديتا - وهي إحدى القرى اللبنانية التي تقع في قضاء زحلة بمحافظة البقاع - بعدما هربت من بيروت لأسباب أمنية. بدأت الذاكرة بعد عام من العودة إلى تراب الوطن تحتفظ بأحداث الحياة اليومية. والطفلة باتت تعي ما معنى الحرب والخوف. وعايشت إحساس وجع الموت عام 1981 في حصار مدينة زحلة عندما مات قريبها وكان منتسبًا لحزب لبناني، ولم يكن قد تجاوز العشرين من عمره. وتتالت الأنباء عن مقتل كثيرين تعرفهم، بكتهم والعائلة ومسحت دموعها لتبكي آخرين غيرهم.
في الحروب تنمو داخل الإنسان عزيمة مقاومة العدو، فيصبح الموت لعبة والسعادة رفاهية، خصوصًا لمن ولد وترعرع في زمن البنادق. انتظرتُ السنين سنين لأكون من بين الذين يسعون إلى التغيير. اعتقدت أنني أستطيع أن أؤسس بلدًا حرًا مستقلاً؛ لكن العمر هرب مني سارقًا معه أحلام الوطن.
أربعون سنة مرّت على بدء شرارة الحرب اللبنانية، فماذا تغيّر؟
سكتت فوهات المدافع، وهدأ هدير الطائرات الإسرائيلية. توقف القتل على الهوية، وسقطت المعابر، وتوحدت بيروت. احتفظت الأحزاب بكيانها ووجودها، بل تأسست أخرى أكثر قوة، وحلفاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم، وانتقلت البندقية من كتف إلى أخرى. بعد أربعين سنة يخشى معاصرو الحرب من اشتعال الشرارة من جديد، أمّا جيل الحاضر فكأنه يكرر التاريخ عن غير قصد وينجرف وراء تصريحات الزعماء المدعومة بأبواق إعلامهم المرئي والمكتوب.
أربعون سنة مرّت أين المفقودون؟
خلّفت الحرب وراءها 150 ألف قتيل و17 ألف مفقود أو مخطوف، وبعد أربعين سنة يواصل أهالي المفقودين معركتهم لمعرفة مصير أبنائهم وأقربائهم. آمال بعضهم لم تمت، بل ما زالوا ينتظرون يوم لقاء الأحبة، وآخرون ربما اقتنعوا أو فقدوا الأمل ببقاء ذويهم على قيد الحياة، وكل ما يسعون إليه لا يتعدى معرفة بقعة الأرض الصغيرة التي دفنوا فيها.
أربعون سنة مرّت فأين هو حلم الوطن؟
باسم حادثة عين الرمانة الشعلة التي فجّرت فتيل الحرب اللبنانية يوم 13 أبريل (نيسان) 1975، والسبت الأسود، ودخول الجيش السوري إلى لبنان، ومجزرة الدامور، والاقتتال داخل الأحزاب اليمينية، والتصفيات وحرب المائة يوم إلى الغزو الإسرائيلي، والمجازر التي طالت كل مكون من مكونات النسيج اللبناني، والاغتيالات وحرب الإلغاء وحرب التحرير، وغيرها، مات شباب لبنان بمختلف أديانهم وانتماءاتهم السياسية، ماتوا وهم يحلمون ببناء وطن. ومرّت السنون والوطن أصبح بلا رئيس، وحاله من سيئ إلى أسوأ. وشاخ ساسته وهم جالسون على مقاعدهم.. ربما ينتظرون مجيء الوطن.
7:38 دقيقه
TT
لبنان.. حلم بناء وطن
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة