في حديثي السابق عرجت سريعا على مسألة أن ثورة «25 يناير» ربما فاجأت وأدهشت الكثيرين؛ بمن فيهم أغلب المصريين أنفسهم.. لكن وبما أنه لكل مقام مقال؛ فإنه لم يتسع المجال هنالك للحديث بشكل أكثر عمقا عن تلك النقطة.
بداية؛ فإن خروج الناس للشوارع، وثمرة مجمل ما حدث خلال الثمانية عشر يوما فاجأ العالم أجمع، رغم أن كثيرا من باحثي العالم كانوا ينتظرون حدوث ثورة في مصر؛ إذ أن الأوضاع وصلت في مجملها إلى الحضيض بالفعل، لكن طبيعة المصريين المستكينة - خصوصا في الأعوام الأخيرة - ربما لم تنبئ بقرب حدوث ذلك الأمر.
كانت الدعوة الأولية للخروج في يوم 25 يناير (كانون الثاني) نوعا من أنواع الرسائل الغاضبة ضد قمع جهاز الشرطة الذي توحش في الأعوام الأخيرة؛ وتحول من جهاز لتوفير الأمن إلى عامل نزع للأمان من قلوب المصريين.
واختار ناشطون هذا اليوم تحديدا لموافقته يوم احتفال الشرطة بعيدها السنوي، داعين بكل بساطة إلى «يوم غضب»، يقتصر على مسيرات وهتافات ووقفات احتجاجية.. فقط.
لكن الرئيس الأسبق حسني مبارك، وبدلا من مراعاة أزمة شعبه النفسية، زاد من غضبهم. وبما عرف عنه من عناد (أحيانا ما كان حميدا وكثيرا ما كان خبيثا ومرا في حلوق المصريين)، ذهب إلى أكاديمية الشرطة قبل الحدث الموعود بيومين (كعادته في مخالفة مواعيد الاحتفالات الأصلية؛ ربما ذلك عقدة منذ اغتيال سلفه في احتفال 6 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1981) ليحتفل بجهازه الأمني ويكرم رجاله.. دون حتى أن يفكر في ذكر أي شيء عن غضب شعبه أو يسعى لتخفيفه.
وخرجت المسيرات.. وقابلتها العصي وقنابل الغاز والمهانة.. فزاد الغضب. وتوالى الأمر ذاته في اليومين التاليين. وكان لأنباء سقوط ثلاثة قتلى في السويس فعل النار في الهشيم، مما دفع كثيرين للخروج في مسيرات حاشدة في اليوم الرابع الذي وافق يوم إجازة أسبوعية، فكانت «جمعة الغضب».
وتوالت الأحداث المعروفة، التي تصاعدت من وقفات لإيصال رسالة عاتبة غاضبة من الشعب إلى حاكمه وجهازه الأمني؛ حتى وصلت إلى ثورة كاملة.. وكثيرا ما أقسمت لأصدقائي أن مبارك لو قال ما في خطابه الثاني في وقت الأول؛ أو الثالث وقت الثاني، لأقام له المصريون التماثيل على امتداد بلدهم باعتباره بطلا قوميا.. لكنه العناد القاتل وغرور السلطة والقوة؛ وهو مما أطاح به من فوق عرشه.
في أشهر عام 2013 الأولى، تكرر المغزى مع اختلاف الشخوص.. الرئيس السابق محمد مرسي وجماعته استولوا بكل شراهة على كل مفاصل البلد، وسياساتهم واقتصاداتهم تدفع الدولة داخليا وخارجيا إلى هاوية محققة.
التذمر الشعبي في ازدياد.. الجيش يتململ في صمت خشية توريط مصر في صراعات لا لزوم لها؛ سواء في سوريا، أو منابع النيل، أو ربما غيرها مما لا يعلمه غير الله.
مجموعة من الناشطين غير المعروفين بشكل واسع آنذاك تبنت حملة صغيرة النطاق للدعوة لـ«التمرد» في الذكرى الأولى لتولي مرسي الحكم.. دعم واسع للحركة من قوى شعبية وسياسية ورأسمالية؛ وربما جهات سيادية.
ولكن جميع المصريين كان يدور في ذهنهم تساؤل مشترك سواء سرا أو جهرا: «إلى أي طرف سينحاز الجيش؟»؛ كون الطرف الذي سينحاز إليه الجيش سيكون الأرجح بلا جدال.
الإجابة عن هذا السؤال سربت بشكل كبير في رسالة شبه مشفرة.. حيث قام اللواء حسين كمال مدير مكتب الراحل عمر سليمان نائب الرئيس الأسبق - وبشكل مفاجئ - بعمل ما أطلق عليه مؤتمر صحافي عالمي.. اللواء (المعروف إعلاميا بـ«الرجل اللي ورا عمر سليمان») ظل يتحدث بكلام مفكك ولا يحمل أي جديد، لدرجة أن بعض الصحافيين الحاضرين هاجموه؛ وتساءل كثيرون عن مغزى هذا الحديث من رجل مخابرات مخضرم.. لكن جملة واحدة قالها كانت ذات مدلول؛ وربما هي الرسالة التي خرج من أجلها: «انزلوا والجيش حيبقى وراكم.. عاوزين تأكيد إيه تاني».
ويتكرر مشهد مبارك في أكاديمية الشرطة؛ ولكنه كان لمرسي في قاعة المؤتمرات المصرية.. وفي خطاب استفزازي متسلط امتد لنحو ثلاث ساعات حتى الفجر، أعلن مرسي تمسكه بكل شيء وعدم استعداده لمراجعة نفسه، أو جماعته.
كان ملاحظا غياب البابا تواضروس وشيخ الأزهر.. الأول أكد أن الكنيسة لا علاقة لها بمنع تظاهر الأقباط، والأخير أعلن صراحة جواز الاحتجاج على الحاكم؛ وهو ما أفتى بعض عتاة أنصار مرسي وجماعته بحرمته القطعية. لكن اللافت أيضا كان حضور وزيري الدفاع والداخلية؛ الفريق أول عبد الفتاح السيسي، واللواء محمد إبراهيم.. وجلوسهما هادئين في الصف الأول وعلى وجهيهما ابتسامة هادئة.
اطمأن قلب مرسي كثيرا لوجود الرجلين، وربما فسر الابتسامات بأنها تنم عن الرضا؛ أو ربما التراجع عن البيان الذي أصدره الجيش يطالب فيه الجميع بالتفاهم وضبط النفس.. واعتبر مرسي أن وجود الرجلين في حضرته يعني أن الإنذار موجه لـ«الآخرين» فقط.. فصال وجال وتوعد وشهر بمعارضيه.
وبعد 72 ساعة، خرجت جموع الشعب عن بكرة أبيها وعاد الجيش ليمهل الجميع 48 ساعة.. رفض مرسي المهلة، فتحرك الجيش هذه المرة سريعا - وبناء على ما اعتبره مطلبا شعبيا - وقام بإعلان عزل الرئيس وتولي رئيس المحكمة الدستورية المنصب بصفة مؤقتة لحين الانتهاء من خارطة الطريق.
خلاصة القول أن العناد مع المصريين، والتكبر على مطالبهم، له نهاية واحدة سواء عاجلة أم آجلة.. فيما يرفع كثير من الناشطين المصريين شعارا يحمل كثيرا من الحكمة والسخرية في آن: «يسقط الرئيس القادم»، في تحذير قوي وصادق للمستقبل، مفاده أن ما حدث مرتين نتيجة للأخطاء ذاتها قابل للتكرار مرارا؛ إذا استخف الحاكم بالمصريين.
8:11 دقيقه
TT
هوامش على دفتر «ثورتين»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة