د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

مع «أوميكرون»... القلق مشروع والهلع ممنوع

في قائمة المربكات الكبرى، التي تضطرب بعد ظهورها حياة البشر وتختلف أحوال معيشتهم تأثراً بها، تتربع على قمتها الجوائح والأوبئة. فبعد عامين من ظهور فيروس كورونا في ووهان بالصين، يحيي الفيروس ذكراه السنوية بمتحور جديد أُعلن عنه في جنوب أفريقيا ومنحته منظمة الصحة العالمية اسم «أوميكرون». ويشكل المتحور الجديد مع المتحور السابق عليه المعروف بـ«دلتا»، الذي ظهر في الهند في شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، خطراً جديداً على صحة الإنسان واستقرار المجتمعات وتطورات اقتصاداتها.
وحتى كتابة هذه السطور ظهرت حالات متعددة للإصابة بالفيروس المتحور مرت بأفريقيا وآسيا، وتكاثرت مع اكتشافها بالاختبارات المتلاحقة في أوروبا وكندا. ولم تظهر حالات بعد في الولايات المتحدة ولكن رئيسها جو بايدن، قال إنها فقط مسألة وقت حتى يصل «أوميكرون» إلى أميركا، بما يدعو للقلق ولكنه دعا شعبه لعدم الذعر أو الهلع الذي يزيد الأمور ارتباكاً. كما ذكر بايدن بعد اجتماع مع كبير خبراء الأمراض المعدية الأشهر أنتوني فاوتشي، بأن بلاده ستتعرف على هذا المتحور وستهزمه، وأنه سيحيط الشعب بالمستجدات. ووفقاً لفاوتشي، فإن اللقاحات المتاحة توفر حماية للأشخاص الملقحين بالكامل، ولكن فريقه سيحتاج إلى أسبوعين للتعرف على مزيد من المعلومات عن مدى خطورة السلالة الجديدة وخصائصها وسبل التعامل معها.
وفي الوقت الذي يدعو فيه الدكتور فاوتشي إلى الالتزام بالإجراءات الاحترازية المألوفة منذ إعلان الجائحة، وتعزيز كل من حصل على جرعتين من اللقاح بثالثة، وأن يمتد التطعيم ليشمل الأطفال، يواجه العالم معضلتين فيما يتعلق باللقاح. أولهما عزوف الكثيرين في أميركا وأوروبا عن تلقي اللقاح لعدم ثقتهم به علمياً، أو لاقتناعهم بالمناعة الطبيعية كبديل لعملية السيطرة بفرض لقاحات، أو لتمردهم على الانصياع لأي ضوابط أو قيود باعتبارات تمسكهم بحرياتهم وسيادتهم على أجسادهم. وفي حين يتعرض فاوتشي وفريقه لهجوم شديد لتمسكه بضرورة التلقيح للبالغين، خصوصاً من سياسيين من الجنوب الأميركي من المنتمين للحزب الجمهوري، ذكرت مجلة «نيويوركر» على لسان دكتور فاوتشي رده على هذا الهجوم بأن «متحوراً فيروسياً للغباء تم التعرف عليه في تكساس! وأن هذا المتحور سريع الانتشار لديه مناعة شديدة ضد كل المعلومات». ويستمر السجال والجدل المتواصل بين من يملكون رفاهية الاختيار في الدول الغنية، ففي نهاية الأمر لديهم العلاج في منظومتهم الصحية إذا ساءت اختياراتهم، رغم ما في ذلك من مخاطر تتجاوز في تكلفتها ما تتطلبه الوقاية.
المعضلة الثانية الأكبر خطراً هي عدم العدالة في توفير اللقاحات حول العالم. وفي مقال نشر الأسبوع الماضي بصحيفة «الشرق الأوسط» الغراء بقلم جوردون براون رئيس الحكومة البريطانية الأسبق، بصفته سفيراً لمنظمة الصحة العالمية لتمويل الصحة العالمية، أقر بفشل المجتمع الدولي في الوفاء بتحقيق التوزيع العادل للقاحات. فرغم أن العالم مع نهاية هذا العام سيكون قد أنتج 12 مليار لقاح، فإن 95 في المائة من البالغين في الدول الأفقر ما زالوا محرومين من اللقاح الذي تستحوذ عليه الدول الأغنى. ولن تصل أكثر من 80 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل للحد الأدنى المقرر عالمياً بتطعيم 40 في المائة من البالغين من سكان كل دولة. وهو ما حذرنا منه تكراراً منذ الإعلان رسمياً في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 عن الانتصار العلمي بتطوير عدة لقاحات ناجعة في زمن قياسي. ففي حين انتصر العلم خابت الإرادة السياسية وخارت قواها المحدودة أمام جشع المستحوذين على اللقاح، الذين ستنتهي في مخازنهم صلاحية 100 مليون جرعة قبل نهاية هذا العام لن ينتفع بها فقير أو غني.
وهكذا لم تشهد الدول النامية بعد كل اجتماع دولي للتعهدات إلا اتساعاً في الفجوة بينها وبين الدول ذات اللقاحات إنتاجاً أو اقتناء، ولم تجد الدول الأفقر مع هذا الحرمان إلا سخاء في وعود لم يوف بها. فوفقاً لبراون، فإن الدول الأغنى اشترت بالفعل ما يقترب من 90 في المائة من كافة اللقاحات، كما تسيطر على 70 في المائة من توريدات المستقبل. هذا في حين أن عدد من حصلوا على اللقاح في أفريقيا يقل عن 7 في المائة وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وعن صافي حسابات الوعود، فقد أوفت الولايات المتحدة بحوالي 22 في المائة من تبرعاتها الموعودة فحسب، وهي بذلك أفضل نسبياً من أداء الاتحاد الأوروبي الذي لم يتجاوز نسبة 15 في المائة.
وتجتمع هذا الأسبوع جمعية الصحة العالمية، وينتظر منها أن تتبنى قرارات مهمة لمنع تكرار حالات الإهمال السابقة على الأوبئة التي يعقبها هلع بعد الإعلان عن تفشيها، وذلك من خلال الاستثمار في تدابير وقائية وإتاحة التمويل الكافي للعمل الصحي الدولي، والنظر فيما تتبناه إدارة منظمة الصحة العالمية من اقتراح لمعاهدة دولية جديدة تدعم التنسيق الدولي في الاستعدادات المانعة لتفشي الأوبئة، والدفع بسرعة المواجهة حال حدوثها دوت إبطاء.
ومن العجيب أنه على بعد مسافة قريبة من مقر منظمة الصحة العالمية، حيث تقبع منظمة التجارة العالمية، ما زال هناك إصرار على عدم منح الإعفاء المؤقت من قيود حماية حقوق الملكية لما يتعلق بمواجهة جائحة من لقاح وعلاج. وضيع العالم وقتاً ثميناً منذ تقدمت جنوب أفريقيا والهند في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2020 بطلب الإعفاء الذي رفضته إدارة ترمب الأميركية ودول غنية معها، ثم عاودتا الكرة ومعهما ستون من الدول النامية في شهر مايو (أيار) من هذا العام بطلب جديد، ولم يحرك هذا ساكناً رغم موافقة ما أظهرتها الولايات المتحدة منذ عدة شهور، بعدما كانت معترضة على الموافقة من قبل، لتعارضها الآن دول أوروبية بحجج واهية.
هناك ضرورة عالمية الأثر تحتم السماح للدول النامية ذات القدرة على إنتاج اللقاحات بالسير قدماً في ذلك، ولكن يعطلها التعنت بالتمسك بحقوق الملكية، وهو ما ينبغي التصدي له، وعدم الاكتفاء بوعود بقروض ميسرة أو دعم بمنح اللقاح. فالمنطق البسيط، فيما يفهم من شرح أهل الاختصاص، إما أن تكون في الدول النامية معامل وطاقات لإنتاج اللقاح وسرعة توزيعه فتصبح بذلك جزءاً من الحل، وإلا أصبحت جزءاً من المشكلة بجعلها مأوى ومكامن لخطر تحور مستمر للفيروس وعدم السيطرة سريعاً عليه؛ فلم يكن «دلتا» آخر التحورات، ولن يكون «أوميكرون» آخرها أيضاً.
ورغم ما مر به العالم من خبرة عن الأثر الاقتصادي لهذه التطورات فقد تكون هناك تساؤلات معلقة، ألخصها في حوار مفترض على طريقة الكاتب الآيرلندي صمويل بيكيت، في مسرحيته الشهيرة في «انتظار جودو» بين بطليه إستروجان الملول المتعجل، وفلاديمير الفيلسوف الهادئ:
- ما الذي ينتظر العالم من تغيرات اقتصادية؟
* الإجابة يسيرة وليست سارة.
- أفصح بالله عليك!
* بحكم ما رأيناه من تجربة مريرة خلال العامين الماضيين علينا أن نتوقع مزيداً من عدم اليقين، وتقلباً في الأسواق مع انخفاض في معدلات النمو والتشغيل لضعف الاستثمارات، مع زيادة في التباين في الدخول والثروات لصالح الدول الأغنى المستحوذة على اللقاحات، مصحوب ذلك كله بارتفاع في معدلات التضخم في الأسعار.
- وكأنك تقرأ تقرير مريض متعدد العلات! ولكنك تقول بوجود تضخم رغم ما نراه من مظاهر الركود؟ هل يجتمعان معاً.
* العين أسيرة ما تراه. ربما ترى أنت ركوداً حيث تعيش وتعمل، ولكن الركود ليس شاملاً لكل القطاعات؛ وإن كانت هناك مخاوف مما يسمى بالركود التضخمي مثلما حدث في السبعينات باجتماع الشرين معاً، وهو ما لا أرجح حدوثه فما زال هناك نمو يقترب من 6 في المائة في هذا العام، و5 في المائة في العام المقبل.
- أرقامكم لا نراها إلا في التقارير كثيرة التعديل والتغيير.
* ملاحظتك لا بأس بها، ولكن لا تنس أنها تتحدث عن توقعات تصيب وتخطئ. كما أن الأرقام متوسطات محسوبة لإجمالي أرقام متباينة في عالم يعاني من التفاوت أصلاً.
- ولكن ما سبب هذا التضخم؟ وهل هو مؤقت أم مستمر؟
* أراك تتابع تصريحات جيروم باوال رئيس البنك الفيدرالي الأميركي ومعارضيه. هو يراه مؤقتاً وهم يرونه مستمراً.
- وكيف تراه أنت؟
* أراه تضخماً محدوداً في الدول المتقدمة سينحسر بعد حين، ولكنه سيكون غلاء في الدول الأفقر التي تفتقد نظماً شاملة للضمان الاجتماعي. فستضار بزيادة تكلفة المعروض باستمرار ارتباك سلاسل الإمداد، ولاعتمادها على سلع مستوردة بتكاليف تعلو مع انخفاض سعر الصرف، مع زيادة خدمة الديون المقترضة لشراء هذه السلع بسبب إجراءات ستتخذها الدول المتقدمة لكبح جماح التضخم عندها برفع أسعار الفائدة.
- هل هذا من العدل في شيء؟
* لا!
- تقولها ببساطة... ولكن حقاً ما العمل؟
* أو لم تسمع عن نصيحة الرئيس بايدن؟
- وماذا قال؟
* خلاصة ما قاله إن القلق مشروع والهلع ممنوع
- أحقاً قال ذلك؟ أستطيع أنا أيضاً قول مثل هذا الكلام وأكثر.
* حسناً... قله إذن!
- لا نستطيع الاستمرار هكذا.
* هذا ما تظن!