يونـس سليمـاني
صحافي جزائري يشرف على الشؤون الدولية في «الشرق الأوسط»
TT

الجزائر… و«المؤشرات الدولية»

وصف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قبل أيام، بلاده بكونها «قوة ضاربة» في محيطها الإقليمي، فأثار جدلاً واسعاً باستخدامه تصنيفاً زئبقياً يصعب تحديد دقّته. هذا التوصيف، يأتي في الحقيقة، في سياق ما يطلقه مسؤولون كثيرون في المنطقة، بين الفينة والأخرى، عن بلدانهم بأنها «الأكثر قوة» أو «الأكثر نفوذاً» وما شابه.
وبعيداً عن الخطابات العامة، يجدر التدقيق في تقارير «المؤشرات الدولية» للوقوف على صورة أوضح. «مؤشر التنمية البشرية»، مثلاً، يصنّف الجزائر ضمن «الدول ذات التنمية العالية» ويمنحها في تقريريه لعامي 2019 و2020 المرتبة 91 ضمن 189 دولة. هذا المؤشر يضع الجزائر في صدارة الدول المغاربية وأيضاً كل الدول العربية غير الخليجية. الدول الخليجية الست تأتي ضمن خانة ”الدول ذات التنمية البشرية العالية جداً“. ويجري قياس هذا المؤشر، الذي تعدّه الأمم المتحدة سنوياً منذ عام 1990، وفقاً لمعطيات رئيسية ثلاثة هي متوسط العمر المتوقع، ومتوسط سنوات التعليم المتوقعة، والقدرة الشرائية للفرد. وواضح أن ”الإنفاق العام“ الناجم عن إيرادات المحروقات يلعب دوراً رافعاً كبيراً لهذا الوضع الجيد للتنمية في الجزائر.

في المقابل، يقدم متغيّر ”قوة الدولة“، صورة معقّدة. ”مؤشر الدول الهشة“، لعام 2021، يضع الجزائر في ”الخانة التحذيرية“ الثالثة الصفراء، وتحديداً في المرتبة 74 من أصل 179 دولة، في وضع متراجع عن الجيران ومتقدم فقط على ليبيا (المرتبة 17) التي تعاني تمزقاً كبيراً والموجودة في ”الخانة الإنذارية“ الرابعة الحمراء. بموجب هذا المؤشر، تبدو الجزائر في وضع أسوأ من تونس (المرتبة 94) والمغرب (83)، رغم أن هذين الأخيرين موجودان أيضاً في نفس الخانة التحذيرية. هذا ”المؤشر“ يصدر سنوياً عن ”صندوق السلام“، وهو عبارة عن مؤسسة أميركية تقول إنها غير ربحية وتُعنى بالحد من الصراعات وترويج السلم.
تحدّد هذه المؤسسة البحثية ”هشاشة الدولة“ بـ 12 عاملاً ضمنها ”الوضع الأمني“ و“الانهيار الاقتصادي“ و“شرعية المؤسسات السياسية“ و“وضع حقوق الانسان“ و“ضغوط تزايد السكان“ و“التدخلال الخارجية“. في الحالة الجزائرية، تبدو الدولة هشة في ”شرعية المؤسسات السياسية“ و“انقسام النخب“ لكن قوية في مقاومة ”التدخلات الخارجية“. التقرير يضع الجزائر الأولى مغاربياً في مقاومة ”التدخلات“.
هناك ”مؤشرات“ أخرى ترفع ”الراية التحذيرية“ للجزائر، على غرار ”مؤشر الدول التنافسية“ الذي يصدره ”المنتدى الاقتصادي العالمي“ (منظّم ”منتدى دافوس“) ومنح الجزائر، في تقريره لعام 2019، المرتبة 89 ضمن 140 دولة، متخلّفة أيضاً عن جاريها تونس (المرتبة 75) والمغرب (87). تقرير سابق لـ ”المنتدى الاقتصادي“ يحدد أكبر أربع صعوبات تواجه قطاع الأعمال في الجزائر في ”البيروقراطية غير الفعالة“ و”الفساد“ و”صعوبات التمويل“ و”عدم استقرار السياسات“.
هناك، بكل تأكيد، عدد لا يُحصى من النظريات وطرق قياس قوة الدول وأدائها، إلا أن المؤشرات المطروحة أعلاه تجمع بين الجوانب العلمية والطرق التطبيقية المقارنة، وهو ما يعطيها جاذبية. إنها تصنيفات تحليلية تفكّك التوصيفات الفضفاضة وتغربل الأرقام وتسهّل فهم نجاعة السياسات. وهي حديثة نسبياً؛ إذ ظهر جلها في تسعينيات القرن الماضي وبدأ يجلب اهتمام السياسيين والباحثين بشكل متنام.
بعيداً عن الأرقام، رغم أهميتها، يبدو واضحاً أن الجزائر تملك، بفضل ثروتها البشرية الشابة ومداخيلها من المحروقات، مقوّمات لتحسين وضعها. هذا البلد كان في العقدين الذين تليا استقلاله عام 1962 في وضع أفضل بكثير، قبل أن يبدأ بالتراجع. أولى محطات ذلك التراجع حدثت في ثمانينيات القرن الماضي إثر انهيار أسعار المحروقات، والثانية حدثت بعد ذلك بسنوات قليلة عندما ألغت السلطة السياسية/العسكرية انتخابات 1991 مما أدخل البلد في أتون حرب داخلية مدمّرة، والمحطة الأخيرة تمثلت في تمسّك الرئيس السابق عبد العزيز بوتفلقة (1999 - 2019) بالسلطة مما تسبب في عودة الحكم الاستبدادي المغلف بوجه ليبرالي فاسد.
البلد دخل الآن مرحلة جديدة بكل تأكيد؛ مسيّروها مختلفون نوعاً ما وظروفها مختلفة أيضاً. التحدي الأكبر أمام هؤلاء هو منع وقوع انزلاقات جديدة في المستقبل. في المدى الآني، هناك صعوبات معيشية وانهيار للقدرة الشرائية وعودة ظاهرة ”قوارب الهجرة“، تقابلها دلائل على تحسّن أسعار النفط وتخطّيها عتبة الـ 80 دولاراً للبرميل. المدير العام لشركة ”سوناطراك“ النفطية المملوكة للدولة، توفيق حكار، قال الشهر الماضي، قبيل القفزة الحالية في أسعار المحروقات المدفوعة بتفاقم أزمة الطاقة الأوروبية، إنه يتوقع إيرادات تتراوح بين 30 مليار دولار و33 مليار دولار مع انتهاء عام 2021. هناك إذن آمال بمداخيل أعلى من مداخيل 22 مليار دولار التي سجّلتها الشركة عام 2020 وكانت متواضعة بفعل تداعيات جائحة ”كورونا“.
ما يمكنه استخلاصه، أن توصيف الجزائر بـ ”القوة الضاربة“ ربما يصعب التحقق منه وربما هو غير مفيد أصلاً، بينما المعطيات العلمية تقدم صورة أوضح: فرصة جديدة لتعزيز التنمية إذا حافظت السوق الطاقوية على تعافيها، وحالة هشاشة في قضية ”شرعية المؤسسات“، ووضع تنافسي اقتصادي سيء إقليمياً وعالمياً، بسبب البيروقراطية المنفّرة والمناخ الاستثماري الصعب. التشخيص واضح جداً، وبقي فقط العمل للإصلاح والتحسين.