سام منسى
إعلامي لبناني قدم لعدة سنوات برنامجا حواريا سياسيا في قناة الحرة. المدير العام لإذاعة "صوت لبنان" سابقا والمدير التنفيذي السابق لـ"بيت المستقبل"، وكاتب عمود في "الشرق الأوسط". مهتم بجمع ومعالجة البيانات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط، خصوصاً الجوانب السياسية والاجتماعية للتنمية العربية.
TT

حصاد نتنياهو وصواريخ غزة

أكثر ما يصدم المتابع لانتفاضة القدس وما تلاها من اشتباكات وقصف بين إسرائيل وغزة، هو شعوره أنه يشاهد فيلماً قديماً سبق وتكرر على مدى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ 70 سنة وحتى اليوم. حادثة حي الشيخ جراح جاءت لتفجر الكبت العميق الذي يعانيه الفلسطينيون من فشل قيادتهم ‏ومن تعنت إسرائيل، ولتؤكد أن هذا الصراع المحكوم بأوهام سيبقى عصياً على كل حل إذا لم تتبدد، ولعل أولها أن العنف سيقتلع إسرائيل ويعيد فلسطين التاريخية من جهة، واعتقاد الإسرائيليين أن المشكلة الفلسطينية وبخاصة مشكلة القدس غير موجودة أو يمكن تجاوزها من جهة أخرى.
فالعنف المجاني وكثافة الغارات بعدد طائراتها غير المسبوقة وحجم واتساع ضرباتها على غزة وما أسفرت عنه من قتلى وجرحى ودمار، فضح حجم الوهم الإسرائيلي المتعجرف والبعيد عن الواقع بأنه قادر على تجاهل الشعب الفلسطيني سواء داخل إسرائيل أو خارجها، هذا الشعب الذي يثبت مرة جديدة أنه رقم صعب لا يمكن تخطيه مهما بلغت شراسة إسرائيل. هذا الوهم المتجذر في سلوك غالبية «الاستبلشمنت» الإسرائيلية، بدَّدتْه صحوات إسرائيلية - فلسطينية متقطعة بعثت أملاً ما لبث أن تلاشى بفعل التشدد المتطرف والعنيف الإسرائيلي كما العربي والفلسطيني. من ناحية أخرى، صحيح أن ما يجري هو ظلم صافٍ وخلاصة عنجهية مَرضية في هذا الزمن، إنما في المقابل الضجيج والصراخ جراءه، كإلقاء الصواريخ «الحماسية»، لا يُجدي نفعاً ويعطي آمالاً زائفة للناس الأبرياء الذين يسقطون في جولات عنف لا طائل منها.
الوهم الثاني هو مناعة إسرائيل المطلقة التي تبددت مع نوعية ومدى الصواريخ المستخدمة من المنظمات الفلسطينية في غزة وما سبَّبتْه من إغلاق مطار بن غوريون، وتلطي الرئيس الإسرائيلي في ملجأ وشعور المجتمع الإسرائيلي أنه ليس بمنأى عن القصف. كل ذلك سيحتِّم على إسرائيل مراجعة خطط أمنها وسياساتها الدفاعية، وهذا يعني الكثير لمستقبل الأمن والسياسة معاً في الإقليم والدول المحيطة بها. أن عنف الرد الإسرائيلي يؤشر إلى ما يدور في عقولهم.
الوهم الثالث هو اندماج عرب 48 في المجتمع الإسرائيلي، فما جرى في المدن الإسرائيلية بين يهود إسرائيل وعربها من أعمال عنف يعبّر عن هشاشة هذا العيش المشترك ويزعزع التقدم الضئيل في الانخراط العربي في الحياة السياسية الإسرائيلية والاندماج في الكيان الإسرائيلي.
إنَّ الدخان المتصاعد من حارات القدس وغزة وغبار القذائف والصواريخ يثبت أن الرابح بعد انتهاء جولة القتل المجاني هذه، إنْ صحّ استخدام تعبير رابح، هي الانتهازية الإسرائيلية - الفلسطينية المشتركة والمتناغمة في أحيان كثيرة. فالمستفيد من هذا العنف جهتان: انتهازية بنيامين نتنياهو وهو يعيش أيامه الأخيرة كرئيس حكومة مع حلم يراوده بفشل منافسيه بإبعاده إلى صفوف المعارضة، بينما قد ينتهي به المطاف في السجن جراء تُهم كثيرة منسوبة إليه، وفي المقلب الآخر السلطة الفلسطينية منتهية الصلاحية، وهي تهرب من انتخابات لو تحصل لربما قُدِّر لها أن تبعث الحياة أو بعضاً منها فيما تبقى من القضية الفلسطينية وتوصل وجوه جديدة قد تستطيع تحريك الجمود الحاصل بين إسرائيل والفلسطينيين.
الأرجح حتى كتابة هذه السطور، أن جُلّ ما سينتج عن جولة العنف الحاصلة هو مزيد من الأوراق في جعبة إيران وحلفائها وميليشياتها وتعزيز لمحاججتها ضد مسارات ومحاولات التوصل إلى سلام مع إسرائيل، وإحكام أكبر لقبضتها على دول المنطقة التي تسيطر عليها وتسعير لحربها ضد رافضي هيمنتها على صناعة القرار فيها. فالعنف الإسرائيلي في هذه المرحلة المفصلية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، لا سيما المشرق العربي، وسط مسارات سلام وتطبيع وعلاقات دافئة مستجدة مع أربع دول عربية حتى الآن ومفاوضات حول العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي، يغذّي ما تسمى قوى الممانعة ويقدم لها مجاناً الأكسجين لتجدِّد الحملات ضد عمليات التطبيع، وقوتاً يدعّم منطقها وحججها بأن السلام مع إسرائيل لن يُجدي.
إن نتائج حوادث القدس وجرائم إسرائيل من جهة ومواقف طهران وحلفائها، وردود أفعالهم العنيفة عليها من جهة أخرى ستؤدي إلى تضرر مسار السلام والتطبيع بين إسرائيل وبعض العرب ومسؤولية صانع القرار الإسرائيلي في ذلك، مع إدراكه تراجع الحماسة الغربية وبخاصة الأميركية لمغامراته، كما تجلى في المواقف الأميركية من الأحداث الأخيرة. ما الهدف في هذه المرحلة التي تتجه فيها الأنظار والنيات الحسنة لدى كثيرين من العرب والإسرائيليين إلى توسيع عملية السلام وتفعيلها، من إقدام إسرائيل على ما أقدمت عليه في القدس الشرقية بحجة تطبيق القانون على عدد من المنازل؟ هل تطبيق مقتضيات قانون أهم وأثمن وأكثر فائدة على إسرائيل والمنطقة بعامة من مسار يعالج مشكلات أو قضايا يفوق عمرها مائة سنة؟ وما مصلحة إسرائيل في إحراج الدول التي راهنت على السلام والعلاقات الطبيعية والناشطة بممارسات مستفزة للشعوب العربية في أكثر من مكان؟ ألم يكن من الأسهل إلغاء هذا القانون أو تعديله أو أقله تأجيل تطبيقه؟ في المحصلة، على إسرائيل اجتراح سياسات ومقاربات جديدة مغايرة للسياسات التي انتهجها نتنياهو حتى الآن.
إن آمالاً كثيرة كانت معقودة على لعب عمليات التطبيع أدواراً حاسمة في التوصل إلى تسويات عادلة وواقعية بين إسرائيل والفلسطينيين، تكون نتيجة حكمة ورؤية واقعية من إسرائيل والعرب، تسويات وحدها مؤهلة بأن تسحب من يد إيران مادة الابتزاز الأقوى التي سمحت لها بالتسلل إلى أوصال عدد من الدول العربية. لكن يبدو أن حكام إسرائيل، لا سيما نتنياهو، لا يزالون على ما هم عليه من انتهازية في سياساتهم الداخلية والخارجية والتي جلبت على الإسرائيليين، باعتراف جهات إسرائيلية كثيرة وازنة، الضرر في الداخل والخارج معاً. فالإسرائيلي العاقل مثل العربي العاقل يسأل: ماذا فعل نتنياهو وحكوماته المتعاقبة بالتطرف العنيف للمستوطنين والذي يحاكي بل يستدعي نظيره الفلسطيني؟ هذا التطرف الذي جعل من إيران المستقوية أكثر استقواءً وأصلب عوداً في مناطق وجودها، لا سيما في لبنان الذي سقط تحت سطوتها وسوريا المقسمة مع نظامها المتعكز على الدعم الإيراني المتغلغل في أوصاله كافة.
من جهة أخرى، لا بدَّ من التذكير بأن العنف هو عنف ويبقى مداناً، والقتل يبقى جريمة ولن تبرره قضية مهما أُسبغ عليها من صفات، والعنف الإسرائيلي يدعونا إلى تذكر المجازر التي حصلت بأيادٍ عربية لا بأيدي الإسرائيليين. لن تتمكن مآسي ما حصل أو يحصل في فلسطين والقدس وغيرها من أن تحجب المجازر والمآسي التي عاشها شعب عربي قريب منّا في سوريا، تعرض ولا يزال لأقسى وأشرس ما تعرض له شعب في المنطقة وحتى خارجها منذ عقود، بما فيهم الشعب الفلسطيني. والقتل هو قتل، والتهجير يبقى تهجيراً، وتدمير المدن والعواصم من بيروت إلى دمشق وبغداد وصنعاء يبقى توحشاً، ولو كان القاتل والمهجّر والمدمّر أباً أو أخاً أو جاراً.
وعسانا لا نعود إلى مقولة «ما أُخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة»، فالأمنيات لا تتحقق إلا برؤية عقلانية تؤكد الممكن من دون شعبوية الخطاب الرنان.