فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

تدخل إيران العميق في سوريا

تعددت وتنوعت التدخلات الخارجية في سوريا في السنوات العشر الماضية، وإذا كانت التقديرات تذهب إلى قول، إنَّ التدخل الروسي كان أهم التدخلات الخارجية في نتائجه المباشرة، فإنَّ التدخل الإيراني هو الأهم في نتائجه البعيدة، وهو الأعمق والأكثر شمولية من أي تدخل آخر.
الفارق بين التدخل الإيراني وغيره من التدخلات، أنَّ الأول تواصل في إطار استراتيجية إيرانية بدأت قبل أكثر من أربعين عاماً مع بدء نظام الأسد الأب ونظام الملالي علاقاتهما عام 1979؛ مما فتح أبواب سوريا على وسعها لتدخلات إيرانية متعددة المجالات والمستويات، حيث اشتغل الإيرانيون عبر مؤسسات رسمية ودينية وشخصيات في كل ما استطاعوا من شؤون سياسية واقتصادية وثقافية من دون أن يغفلوا عن الاهتمام بالمجالات الأمنية والعسكرية، ولم تقتصر تدخلاتهم على المستوى الرسمي في علاقاتهم مع كبار المسؤولين والمؤسسات الرسمية، بل شملت النخبة السورية في قطاعاتها وصولاً للأوساط الشعبية، وعكست تدخلات إيران في سوريا شكل القبضة الناعمة لطموحات إيران في التمدد الإقليمي والذي أخذ أشكالاً عنيفة في بلدان المنطقة، كانت بين أسباب حرب الثماني السنوات بين إيران والعراق 1980 - 1988.
ورغم قوة العلاقات الإيرانية - السورية التي أسسها نظام الأسد وملالي طهران، فإنَّها شهدت جفوات وإشكالات، كان الجزء الأساسي فيها توجس حافظ الأسد من استغلال طهران لخواصر ضعف نظامه، كما بدت قضية تشييع شقيقه جميل الأسد وتشكيله جمعية الإمام المرتضى ذات التوجهات الإيرانية؛ مما جعل الجانبين يسعيان إلى معالجة الإشكالات، خاصة في ضوء تحول دمشق إلى بوابة لبعض علاقات ونشاطات إيران الإقليمية والدولية، حيث لعب نظام الأسد الأب دوراً في دعم علاقات طهران مع الفلسطينيين، ولا سيما حركتي «الجهاد» و«حماس» والجبهة الشعبية القيادة العامة، كما كان بوابة إيران إلى لبنان، وخاصة لجهة العلاقة مع حركة أمل، وفي تأسيس وصعود «حزب الله»، ولعب الأسد الأب دوراً في كسر حدة العداء العربي لإيران، وخاصة في حربها مع العراق، وكان وسيطاً مهماً في تأسيس وتطوير علاقات إيران مع الاتحاد السوفياتي السابق بعد وصول الملالي إلى السلطة عام 1979، وهي القاعدة التي تتواصل على أساسها علاقات إيران مع روسيا.
وشهدت العلاقات الإيرانية - السورية بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، تطوراً ملحوظاً في ظل انفتاح أوسع للأسد على إيران، ومسايرة كل طموحاتها ومطالبها في سوريا، وقيامه بدعم ومساندة «حزب الله» في لبنان، وتوفير ممرات آمنة لاحتياجاته، وخاصة من الأسلحة والذخائر، إضافة إلى دعم سياسة إيران في العراق، وكلها أمور جعلت إيران شديدة الحماس لدعم الأسد في مواجهة ثورة السوريين منذ اللحظات الأولى للثورة، بخلاف ما أطلقته من مواقف حيال ثورات الربيع العربي الأخرى، وثمة شهادات ترددت بأن موقف إيران في دعم الأسد ضد السوريين وثورته، رسم الموقف النهائي لـ«حزب الله» اللبناني، ودفعه للتدخل الواسع في حرب النظام على السوريين.
لقد رفعت ثورة السوريين مستويات التدخل الإيراني في سوريا ووسعتها إلى أبعد الحدود، حيث لم يقتصر التدخل على إيران، بل شمل دفع ميليشيات من أفغانستان والعراق و«حزب الله» من لبنان، تخضع لأوامر طهران للمجيء والقتال في سوريا، ورغم أن دور الميليشيات تركز في الجانب الميداني، فإنه ساهم في خدمة التدخل الإيراني في جوانب أخرى، وساند المهمات التي قامت بها القوى العسكرية والأمنية، التي كانت واجهة إيران الأبرز في السنوات العشر الأخيرة في سوريا.
إن الموازي في المجريات، والأخطر في تأثيرها، تمثله تدخلات خفية، كانت الأقل ظهوراً للعيان، وتشمل سيطرة على المؤسسات الأهم في نظام الأسد، ولا سيما المؤسستين السياسية والعسكرية - والأمنية القابضتين على القرار وقوة تنفيذه، ولإيران سيطرة كبيرة عليهما من خلال رأس النظام ومعاونيه وكبار ضباط الجيش والأمن، وعبرهم تمد طهران أيديها إلى بقية المجالات، التي اشترى الإيرانيون مسؤولين وموظفين فاعلين فيها؛ مما يجعل تأمين المصالح الإيرانية في مؤسسات النظام أمراً مؤكداً، ويجري مراعاتها بصورة بديهية.
ولعل الجهد المبذول من الإيرانيين في أوساط النخبة والقطاعات الشعبية، ليس أقل مما يتم القيام به داخل مؤسسات النظام؛ لأن هذا المسار يمثل السند البديل والمستدام لإيران في سوريا فيما إذا ذهب نظام الأسد، وهو أمر يفكر فيه الإيرانيون؛ لأن الفطنة تفترض ألا يضع الإنسان البيض في سلة واحدة، كما يقول المثل الشائع. وتوفر العلاقة مع أوساط النخبة والقطاعات الشعبية امتداداً لحضور إيران فيها، بل وتطبيعاً لوجودها، وفتحاً لتوسع علاقاتها ومصالحها، أن المثال الأبرز في نتائج هذه العلاقة يبدو في السيطرة الإيرانية على غالبية الشيعة السوريين، وهو إحدى نتائج نشاط الإيرانيين، ومثله تمدد التشييع الفارسي في عدد من المناطق السورية.
ولئن كان النشاط الإيراني محدوداً في خريطته الجغرافية وفي قطاعاته في فترة ما قبل الثورة، فقد صار أشمل وأكثر تنوعاً في السنوات الأخيرة. ففي السابق كان الجهد الإيراني منصبّاً بشكل رئيسي في مدينة السيدة زينب جنوب دمشق، التي تحولت إلى مركز للتشييع الإيراني من خلال المقام والحوزات الشيعية والمقبرة، ثم توسع في دمشق القديمة بالكشف عن مقامات عدة، وشمل بلدات في ريفها القريب مثل داريا وعدرا وطريق الزبداني، حيث مقام النبي هابيل، وتمدد إلى أنشطة تعليم اللغة الفارسية ومعارض الكتب والفنون وأسابيع السينما، وجرى توسيع هذه الأنشطة إلى بعض المحافظات، منها مدينتا الرقة وحلب، حيث أحيى في الأولى مقام أويس القرني، وفي الثانية مشهد الحسين في جامع النقطة.
تمدد النشاط الشيعي الإيراني في السنوات الأخيرة أكثر، منتشراً في الجهات الأربع من مناطق سيطرة النظام، أعني المنطقة الشرقية، وخاصة خط الحدود السوري - العراقي في البوكمال، والمنطقة الشمالية ومركزه مدينة حلب، التي صار إيرانيون يشيعون، أنها كانت مدينة شيعية، والمنطقة الثالثة وهي المنطقة الجنوبية ومركزها دمشق وريفها وفيه مدينة السيدة زينب، ومنها تتوالى مساعي تمدد للتشييع نحو درعا والسويداء، والمنطقة الرابعة هي المنطقة الغربية، وثمة دأب إيراني متواصل لتأسيس وجود هناك، عبر ربط أبناء الطائفة العلوية بالشيعة الإيرانية، حسب فتوى إيرانية، صدرت في ثمانينات القرن الماضي، لكنه ولأسباب متعددة، فإن استجابة العلويين ضعيفة، وتحد من الطموح الإيراني.
انتشار النشاط الإيراني في سوريا، يشير إلى تعدد مجالاته، التي تتجاوز الأنشطة الشائعة والتقليدية من نشاطات تعليمية وثقافية، ومن نشاطات اقتصادية فيها استثمارات صناعية وزراعية وسياحية، ويجري فيها التركيز على أمرين، أولهما نشر التشييع الإيراني وسط الأفراد والعائلات وصولاً إلى العشائر، والآخر تشكيل ميليشيات تتبع إيران، وتكون بمثابة ذراع مسلحة وأمنية لها، وهذا لا يعزز قبضة إيران في سوريا اليوم فقط، بل أيضاً يجعلها قوة مؤسسة وحاضرة حتى لو خرجت قواتها وأجهزة مخابراتها وميليشياتها المتعددة الجنسيات، حيث سيوفر المنتمون إلى الطائفة الشيعية من السوريين والمنضويين منهم في ميليشيات تتبع إيران حالة تقارب المثال اللبناني، حيث يسيطر «حزب الله» على شيعة لبنان بعد أن اختطفهم ووضعهم في خدمة إيران ومشروعها في المنطقة.