ما جرى في العراق مؤخراً، وما بقي يجري، منذ أن تضاربت وتصادمت المعادلات، وأصبحت هناك قوة إيرانية متفوقة، على أن المفترض أنها الشرعية العراقية، بات القرار العراقي في كل شيء قرار التنظيمات المذهبية، ليست التابعة لـ«الولي الفقيه»، وإنما لـ«الحرس الثوري الإسلامي»... وبالفارسية «سباه باسداران انقلاب إسلامي»، وقائده اللواء حسين سلامي، والحقيقة مع الأسف الشديد أنه هو صاحب القرارات الحاسمة، ليس في العراق فقط، وإنما أيضاً في سوريا، التي لا تزال ترفع، من قبيل الضحك على الذقون، شعار «أمة عربية واحدة... ذات رسالة خالدة»، وفي لبنان، وفي الجزء «الحوثي» من اليمن، وأيضاً في بعض مناطق ليبيا التي لم تعد «جماهيرية» ولا موحدة، هذا مع أن شعبها من خيرة الشعوب العربية.
والمشكلة هنا هي أن صدام حسين بعد حرب الثمانية أعوام مع إيران، التي كان قد انتصر فيها بدعم عربي فعلي ومعروف ولا يستطيع أياً كان إنكاره، لم يتوجه شرقاً بعد الانهيار الإيراني بعدما أعلن الخميني، وهو يُكفكف دموع الإذلال والهزيمة، أنه تجرّع وقف إطلاق النار كتجرّع السم الزعاف، بل توجه جنوباً واحتلّ دولة الكويت العربية التي كانت يدها ممدودة ولا تزال لدعم الدول العربية التي هي بحاجة إلى الدعم، ومن بينها - وهذا مؤكد ومعروف - بلاد الرافدين، خلال الحرب الإيرانية - العراقية، وقبل ذلك، حتى عهد عبد الكريم قاسم الذي لم يكن ميموناً، ولا هم يحزنون!!
لقد كان على صدام حسين بعد انتصار العراق على إيران ألا يذهب إلى الشقيقة الكويت وشعبها الطيب وقيادتها الكريمة بالدبابات وبالقتلة والمخابرات والاستخبارات، وإنما بيد ممدودة بالشكر والعرفان لشعب شقيق كريم ومعطاء لم يتخلَّ عن بلاد الرافدين في كل ما مرّت به من أزمات طاحنة متلاحقة، وكان عليه أن يتوجه بقواته المنتصرة إلى الشرق أي إلى وطن عربي محتل، هو إقليم «الأحواز»، أي عربستان الذي كان احتله الإيرانيون الفرس عام 1925 في عهد نادر شاه الأفشاري، بعد مقاومة بقيادة خزعل جابر الكعبي، وكان قائد القوات الإيرانية آنذاك رضا خان، وكانت دوافع الاحتلال في تلك الفترة هي أن هذا الجزء من العراق كان ولا يزال غنياً بالموارد الطبيعية، وكانت أراضيه زراعية، حيث كان ولا يزال يصبّ فيه نهر كارون «قارون» الذي يعتبر أكبر وأهم أنهار هذه المنطقة الغنية.
لقد كانت إيران بعد حرب الثمانية أعوام مع العراق في أسوأ أوضاعها، وكان بإمكان الجيش العراقي المنتصر ألا يتجه إلى الجنوب نحو دولة عربية كانت يدها ممدودة للعراق ولكثير من أشقائها العرب، بل إلى «الأحواز»، وحقيقة أن الانتصار في معركة كهذه المعركة كان مضموناً، على اعتبار أن الإيرانيين كانوا في ذروة هزيمتهم، وأن العراقيين كانوا في ذروة انتصارهم، وهنا فإنه لا يزال غير مفهوم لماذا استهدف صدام حسين بلداً عربياً لا تزال أبوابه مفتوحة للعرب كلهم، ولماذا لم يستغل لحظة تاريخية كانت ملائمة لاسترداد هذا الجزء من بلاد الرافدين الذي لا يزال أهله يقاومون مقاومة باسلة، ولا يزالون يقدمون لأعواد المشانق الإيرانية قوافل الشهداء المتلاحقة.
في كل الأحوال، تجدر الإشارة إلى أن الأميركيين عندما احتلوا العراق، وجرى إعدام صدام حسين شنقاً... في فترة لاحقة، في 30 ديسمبر (كانون الأول) عام 2006 قد ارتكبوا «حماقة» كبيرة وخطأ فادحاً بفتح الحدود العراقية للإيرانيين الذين بادروا إلى استغلال بعض العوامل المذهبية والطائفية وسيطروا عملياً على هذا البلد العربي، كما هي الأمور حالياً... وحقيقة أن مسؤولية هذا كله يتحملها الأميركيون الذين فتحوا أبواب هذا البلد العربي الذي كانوا يحتلونه للإيرانيين الذين كانوا ينتظرون مثل هذه اللحظة التاريخية لاستعادة ما كانوا خسروه في حرب الثمانية أعوام، وهنا يبدو أن الولايات المتحدة كانت تنتظر انفتاحاً إيرانياً عليها، على غرار ما كانت عليه الأمور في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الذي ارتكبت إدارته في هذا المجال حماقة سياسية، ستبقى أميركا تدفع ثمنها غالياً لفترة مقبلة طويلة.
والمؤكد أن الأميركيين باتوا يعرفون أكثر من غيرهم أنهم قد ارتكبوا حماقة تاريخية عندما فتحوا أبواب العراق للإيرانيين، بعد إسقاط نظام صدم حسين وإعدامه، وحيث إن هؤلاء قد بادروا إلى الردّ على هزيمتهم في حرب الثمانية أعوام باستخدام العامل المذهبي والطائفي غطاءً لسيطرتهم على هذا البلد العربي، في كل شيء، وهذه مسألة باتت واضحة ومعروفة، فالقرار بالنسبة لبلاد الرافدين بات في طهران في يد قائد «الحرس الثوري» الإيراني الذي هو الآن حسين سلامي، وكما كانت عليه الأمور في عهد قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، الذي من المعروف أن أميركا قد تخلصت منه، «باعترافها»، بضربة جوية في مطار بغداد الدولي، بينما كان عائداً من دمشق، ومعه العراقي أبو مهدي المهندس في 3 يناير (كانون الثاني) عام 2020.
ويقيناً أن الأميركيين، الذين تقع سفارتهم الآن في كرادة مريم في قلب العاصمة العراقية، وحيث «تختبئ» تحت الأرض بمئات الأمتار، لم يعد بوسعهم إنْ هم ردّوا على هذه الضربة الأخيرة التي هي ضربة إيرانية وإنْ كانت بأيدٍ عراقية إلا إقفال هذه السفارة، حتى إنْ بقي وجودهم العسكري في بلاد الرافدين، وهكذا بالطبع، تعرف الولايات المتحدة أن إيران قد باتت لها السيطرة الكاملة على 3 دول عربية، هي العراق وسوريا ولبنان... وعلى جزء من دولة رابعة هي اليمن، وهذه مسألة غدت واضحة ومعروفة، ولا تنكرها حتى الدول المعنية.
المعروف أن حسن نصر الله، الذي بات يتحكم الآن بكل شيء في لبنان، من ضاحية بيروت الجنوبية، قد اعترف علناً وبلسانٍ فصيح أنه يعتمد على إيران في كل شيء، وحقيقة أن هذا ينطبق على كل التنظيمات المذهبية في العراق، وبالطبع على القوات الإيرانية في سوريا... وأيضاً على «الحوثيين» في اليمن الذي لم يعد سعيداً في ذلك العهد، ما يعني أنه للتخلص من هذا كله لا بدّ من مواجهة فعلية مع إيران، حيث إن المواجهة المؤثرة والفاعلة يجب أن تكون في الداخل الإيراني نفسه، وبالاعتماد أساساً على قوى المعارضة الإيرانية وعلى الإيرانيين الذين ما عادوا قادرين على احتمال هذا النظام الاستبدادي الذي دأب على ملاحقة الذين يرفضونه ويسعون إلى إيجاد بديل له، في العالم بأسره وفي أربع رياح الكرة الأرضية!!
وهكذا، فإنه لا بدّ من دعم حركة «مجاهدين خلق» الإيرانية بقيادة المناضلة مريم رجوي ودعم قوى وتنظيمات المعارضة الإيرانية الداخلية والخارجية كلها، وهنا فإنه يجب الأخذ بعين الاعتبار أن أي ضربة أميركية، كما يهدد ويتوعد الرئيس الأميركي دونالد ترمب المغادر قريباً، ستقوّي هذا النظام أكثر مما تضعفه، فالمعروف كما سبقت الإشارة إليه هو أن نظام الملالي فرض تمدده الطائفي في هذه المنطقة كلها وأنه إذا كان لا بدّ من المواجهة معه فإن هذه المواجهة يجب أن تكون بالتصدي لكل هذه التنظيمات المذهبية التي باتت لها امتدادات إرهابية في كثير من الدول العربية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الرد المطلوب يجب أن يكون في إيران نفسها، وليس في أي مكان آخر!!
7:44 دقيقه
TT
الرد على الإرهاب الإيراني مكانه إيران
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة