جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

حرب عالمية ثالثة

الوباء اللعين أثبت بعد عام من اللؤم والخبث أنه أقوى من الحربين العالميتين الأولى والثانية، لأنه بدأ حرباً ثالثة لا تشبه سابقتيها، إنها حرب الأعصاب، وما أصعب هذه الحرب التي تدمر الفكر والتفكير والعصب الممتد من دماغك إلى أخمص قدميك، تجعلك تخاف من أي حركة وأي نفس وأي عطسة وسعال.
المرض العقلي من أكثر الأمراض التي تفتك بالبشر ومن أكثرها تسبباً في الانتحار والموت. استطاعت حرب الأعصاب أن تحول عالمنا إلى سجن كبير، دون التفرقة في السن والعرق والدين. الحروب السابقة تكون أسبابها واضحة وغاياتها صريحة وخساراتها معروفة، إنما هذه الحرب غامضة، لا يصارعها إلا العلماء والأطباء والممرضون والممرضات والباحثون في المختبرات، في وقت يعيش فيه البشر حياة لا تشبه الحياة وصعوبة لا يمكن وصفها إلا بالألم العقلي والشعور بالإحباط والتعاسة الدائمة مهما تظاهرنا بالإيجابية.
في نهاية كل عام، أقطع على نفسي وعداً، وأحاول أن أغير بعضاً من خصالي التي أراها مزعجة، وفي بداية كل عام جديد أتبع التعليمات الجديدة التي وعدت نفسي بها ولكن ومع دخول شهر فبراير (شباط) تراني عدت إلى ما كنت عليه في عامي السابق. ولكن، هذا العام ومع اقتراب نهايته، لا أريد أن أغير أي شيء في شخصيتي إنما أتمنى أن أعود إلى ما كنت عليه، ولا أريد أن أبكي على عام مضى ولم أنجح خلاله في تحقيق ما حلمت به، وإنما أتمنى وأرجو بأن يختفي هذا العام الذي لا يشبه أي عام سبقه، عام سرق 365 يوماً من حياتنا، حولنا إلى إنسان بمواصفات لا تمت للإنسان بصفة.
صارعت المرض العام الماضي ولكني لم أشعر يوماً بما شعرت به هذا العام، لأن حربي العام الماضي كانت شخصية وما يخصني أستطيع التحكم به، إنما هذه الحرب كانت شاملة، ومدمرة للنفوس، وأنا لا أتكلم عن نفسي فقط، بل أتكلم عن أصدقاء يعيشون بمفردهم، وعاشوا الوحدة الموحشة لمدة عام؛ وحدة مصحوبة بالرعب والخوف من الموت وشبحه.
سئمت مشاهدة الأخبار على شاشات التلفزيون، لأنها متشابهة وتزيد الرعب رعباً، أنا من الذين تأثروا هذا العام من خبث هذا الوباء، لأني أعشق الحركة والسفر واختبار كل ما هو جديد في عالم المطاعم والضيافة، والأهم هو عشقي للكتابة عن هذه المواضيع، فوجدت قلمي يجف وأفكاري تنحسر في الذكريات والصور الجميلة المحفورة في ذاكرتي التي أحاول أن أرويها للمقربين مني كي لا يحرمني الوباء من تذكرها، وبالتالي نسيانها.
وضعي لا يزال أفضل بكثير من غيري، وأشكر الخالق على كل نعمه، ولكني أفكر بالمسنين الذين حرموا من رؤية ذويهم، وزملائي الذين يعيشون وحيدين، وأفكر بالمرضى الذين خاضوا معاركهم بمفردهم بعدما أصبحت المستشفيات مخيفة وتوحي بالموت والمرض من دون شفاء، أذكر أن ما جعلني أتخطى مشكلتي الصحية العام الماضي، محبة الغير وحب المقربين ووجود يد مسكت بيدي ولم تتركني، عشت هذه اللحظات في المستشفى وأعرف أكثر من غيري معنى أن تكون وحيداً في المستشفى ولا يستطيع أي أحد مرافقتك والطبطبة على كتفك.
هذه الحرب دمرت النفوس وللأسف بينت في الكثير من الأحيان أنانية الإنسان وأسوأ صفاته.
هذا العام سأحتفل بآخر ليلة فيه بسعادة لا توصف، سأرتدي فستاناً أسود اللون وأرقص على صوت آخر أنفاسه وكأني أرقص على قبره انتقاماً مما فعله بالعالم والحسرة التي زرعها في الذين لم يتمكنوا حتى من وداع أحبائهم.
وداعاً عام الوباء والشؤم، فأنا على يقين بأن ما يأتي سيكون أفضل لأنه لا يوجد أسوأ مما مضى.