اعتدت على المشي في أوقات فراغي في غابة جميلة تظلل ممشاها الضيق الأشجار الوارفة التي تتعانق، وتعشش فيها العصافير، وتنبعث من أغصانها أناشيد الحب التي لا يفهمها إلا الطيور. وبالقرب من غابتي الصغيرة هناك باب حديدي، دفعتني حشريتي منذ أن انتقلت للعيش في هذه المنطقة بلندن إلى أن أدخل وأرى أديان السماوات كلها مجتمعة، لا شجار ولا عنصرية ولا تعصب، لأن سكان المكان الذي دخلت إليه عن طريق الصدفة هم موتى، فالموت يجمع ولا يفرق بين عرق ودين.
بدأت أمشي بين القبور، وهذا الأمر لا يزعجني أبداً، بل أجد فيه راحة نفسية، أصلي في نفسي من أجل الأشخاص الذين أحببتهم وفقدتهم.
اكتشاف المقابر وقراءة من يرقد تحتها أصبح جزءاً لا يتجزأ من رحلتي.
ولكن كان هناك مشهد غريب، سيدة تجلس على مقعد خشبي مقابل قبر مصمم بالرخام، حجر كبير حفر على شكل حرف «ب» بالأجنبية، تنبعث منه أصوات أجراس تكسر السكون والهدوء، أرضية من الرخام الأبيض تلمع من شدة النظافة، باقات ورود موضوعة في المكان المسيج بشريط ليحمي خصوصية الأرض، والسيدة لا تزال جالسة، لا تحرك ساكناً.
تظاهرت بالقوة، وكنت أحارب دموعي وأحبسها في عيني. أشارت إلى صورته، فبرونو كان على وشك التخرج من الجامعة، وكان يعمل عارض أزياء لشدة وسامته، شعرت بحزن كبير، ولأول مرة في حياتي أتلعثم، ولا أعرف ما الذي يجب عليّ أن أقوله لأم مفجوعة، لا يمر يوم إلا وتأتي فيه لتنظيف القبر والتكلم مع فلذة كبدها.
لا أعرف لماذا، ولكني شعرت بحزن كبير، وكأني عرفت برونو وإزميرالدا، دعوتها لشرب القهوة في منزلي في يوم من الأيام، وقبلت الدعوة.
اليوم، اخترت أن أخبركم قصة إزميرالدا، لأني مررت بالقرب من باب المدافن الحديدي، ولكنه كان مقفولاً، وضعت عليه لافتة صغيرة تفيد بأن المقابر مقفلة حتى إشعار آخر بسبب وباء كورونا.
غصصت وغرقت في حالة من الحزن، وفكرت بالمسكينة إزميرالدا، كيف تقضي أيامها وهي محرومة من المجيء لزيارة قبر ابنها مثلما فعلت على مر السنين الأربع الماضية؟ كيف تشعر؟ ماذا حل بها عندما سمعت خبر الإقفال؟
تابعت طريقي، ومشيت باتجاه الغابة التي أصبحت صديقتي ومصدر مدي بالطاقة الإيجابية في زمن الحجر المنزلي، رحت أمشي وأمشي مشتتة الأفكار، وقلت لنفسي: «آه يا حياة، كم أنت قاسية! لقد كسرتي قلب إزميرالدا مرتين».