الخيانة مؤلمة، صعبة، جارحة... لطالما سمعنا عن خيانات الروح والجسد، ودائماً وأبداً كان رأيي في الموضوع واضحاً وصريحاً: «إذا تعرضتُ للخيانة لَتركت الساحة لشريكي بصمت من دون عودة».
لكن للأسف لم يخطر على بالي أن الخيانة ستأتيني من أقربهم إليَّ، من جسدي... نعم جسدي خانني، فماذا أفعل؟ أتركه؟ هذا الأمر مستحيل.
لحظة سماعي خبر وجود سرطان في ثديي الأيسر، تأثرت، إلا أنني لم أبكِ... توقف الزمن لوهلة لكني عدت إلى الواقع وهمست في داخلي، وتأكدت من أني أعيش لحظة حقيقية... ولست تائهة في حلم مزعج سيختفي بمجرد أن أفتح عينيّ وأستفيق.
تركت العيادة كأن صاعقة ضربتني. الخبر كان صادماً، كيف لا، ولا أحد من أفراد عائلتي عانى من هذا المرض من قبل؟ لكني مشيت في الطريق والشيء الوحيد الذي كان يجول في داخلي سؤال واحد: «كيف استطعت يا جسدي أن تخونني؟ لطالما اعتنيت بك وعاملتك باحترام وقدمت لك أفضل غذاء. ماذا فعلت لك لتكون قاسياً بهذا الشكل؟
في ذلك اليوم المشمس من أيام شهر مايو (أيار) اللندنية الربيعية، تغيرت حياتي في لحظة واحدة. تبدلت كلماتي ومعجم تعابيري، واختلفت رؤيتي لـ«هارلي ستريت» شارع العيادات الأشهر في لندن. قررت إجراء عملية استئصال الورم بعد أسبوعين فقط من اكتشافه. أردت التخلص منه بأسرع وقت ممكن، ليس خوفاً من الموت وإنما بسبب ذلك الشعور الذي ينتابك إذا ما تعرضت للخيانة، ذاك الشعور بالرغبة في الابتعاد وإنهاء كل صلةِ وَصْل.
على مدى أسبوع الآلام النفسي الذي أفضى إلى النتيجة المنتظرة التي بيّنت أن الفحوص والخزعات التي أُخذت من الورم، كانت مشاعري متناقضة. كنت أشعر تارة بأني بخير وستكون النتيجة إيجابية والورم سيكون كتلة من الألياف الحميدة... وتارة أخرى كان يخالجني شعور غريب فيه نوع من الحزن ممزوج بصخب الأسئلة التي كانت تتخبط في رأسي. أسئلة كثيرة لم أكن أملك الإجابة لها لكني قطعت وعداً على نفسي بأني سأحتفل يوم سماعي نتيجة الفحوص مهما كانت... وهكذا حصل، ارتديت أجمل ما عندي. زيّنت شعري ووضعت مساحيق التجميل على وجهي. قاومت دمعة أخفيتها عن عائلتي وأصدقائي المقربين، وذهبت إلى مطعم جميل تناولت فيه ما أحبه من طعام. كنت سعيدة لأني حوّلت ذلك اليوم الذي لا يمكن أن أصفه بالـ«شؤم» إلى تاريخ ميلاد جديد... لأن ذلك اليوم غيَّر مسار حياتي من كل نواحيها وكل مفرداتها.
القراءة كانت حليفي. تحولت إلى طبيبة متخصصة في الأورام الخبيثة في غضون أسبوعين. استطعت مناقشة فريق الطب المشرف على حالتي. تفهمت وضعي وتأقلمت معه. لم أسأل نفسي ولو للحظة: «لماذا اختارني ذلك الخبيث دون سواي؟». نعم إنه خبيث لأنه بالفعل كذلك، يتسلل إلى خلاياك يسكن فيك ولا تشعر بوجوده. إنه خبيث، ولقد أحسن من أطلق عليه هذا الاسم لأنه مثل البشر الذين يعشش الخبث في أحشائهم، يتظاهرون بالمحبة ويطعنونك في ظهرك. إنه خبيث لأنه لا يؤلم، لكنه يبسط سلطته وجبروته في عروقك ودمك... وهدفه الوحيد تدميرك.
ولكن، على رأي صديقة عزيزة على قلبي زارتني خلال خضوعي لجلسات مكثفة من الإشعاعات (Radiotherapy) يومياً طيلة الصيف الفائت، فقالت: «سيندم المرض لأنه اختارك». وبالفعل جعلته يندم، فأنا لست عدوانية بطبعي لكنني عندما أقطع وعداً على نفسي أنفّذه... لا أؤمن بالتحدي لكني أغامر. لا أتّبع سياسة الأذية لكنّي أُحذّر وأُنذر. لا أتعدى على حقوق أحد لكني لا أسكت عن هضم حقي. قضيتي مع السرطان شخصية وكان لا بد أن أتولاها بنفسي. لا أحب استعمال كلمة «هزم» و«معركة» و«صراع» عندما نتكلم عن المرض. أنا لم أصارع المرض لا بل قتلته بإيجابيتي، حرقته بحبي للحياة، عذّبته بابتسامتي... وقهرته بتجاهلي له، لقّنته درساً قد يكون عبرة له في المستقبل. فعلت ما يجب عليّ فعله. التزمت بنصائح وتعليمات الأطباء. سامحت جسدي وأعطيته فرصة ثانية. أعطيته قسطاً من الراحة عندما طلب مني ذلك. تابعت عملي على قدر المستطاع. والدواء الأفضل لمرضي كان من خلال رؤية المحبين، وهم كثر، وكم أنا محظوظة. اكتشفت مرضي في مرحلة متوسطة. أشرف على علاجي أفضل وأكثر الأطباء إنسانيةً على الإطلاق، وأنا محاطة بأشخاص ساعدوني خلال محنتي من خلال ضخ الطاقة الإيجابية والحب بلا حدود من حيث لا يدرون.
لن أكذب عليكم وأقول إن السرطان تجربة جميلة، لكني أجزم بأنه جعلني أحب الحياة أكثر، وأقدِّر ما أملكه. جعلني أفرح بما أنعم به وأسامح أكثر وأحب أكثر وأعبِّر عن حبي أكثر. أسوأ ما في السرطان هو «اسمه» لا سيما في عالمنا العربي الذي يهابه ويخاف أهله من التفوه به، فيشار إليه بـ«ذلك المرض». هذا الأمر يؤلمني أكثر من المرض. الحديث عنه لا يزعجني، التكلم عن تفاصيل العلاج الذي خضعت له يجعلني شخصاً أفضل، وما أريده اليوم وأنا بانتظار إجراء الفحوص الشهر المقبل للتأكد من نجاح العملية والعلاج هو أن أقدم النصيحة للنساء والرجال في عالمنا العربي، فشهر أكتوبر (تشرين الأول) هو شهر التوعية لمرض سرطان الثدي، أرجوكم قوموا بالفحوص اللازمة. لا تخافوا فالعلم متقدم، وكلما اكتشفنا المرض في مراحل مبكرة، كان نصيبنا في طي صفحة المرض أكبر.
في آخر يوم من علاجي ودّعت من أصبحوا أصدقائي على مدى نحو الشهرين... كلهم يعانون من هذا المرض ويتعاملون معه بجرأة. عندما تقع في فخ المرض لا تستسلم، لأن ذلك الخبيث يريد سحقك، فلا ترضخ له، تصدَّ له ولقِّنه درساً لا ينساه أبداً.
أنا اليوم أستعيد نشاطي تدريجياً، وأنتظر الحادي والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني)، بفارغ الصبر لكي أضع حداً لنصف عام من حياتي، سجنني في زنزانة مفتوحة وحوّل شارع «هارلي ستريت» إلى بيت ثانٍ، وأصبح كل باب فيه تقريباً ذكرى، وما يقبع وراءه حكاية. عشت على مدى ستة أشهر في ذلك الشارع، فمن الصعب نسيان الباب رقم 108 الأزرق الذي أكتشف وراءه مرضي، والباب رقم 88 الذي تجلس وراءه تلك الماكينة العملاقة التي كانت تطلق الإشعاعات في جسدي وتحوّل بشرتي إلى كتلة من النار، والباب الأحمر الذي كان ينافس لونه لون دمي الذي سُحب من جسمي أكثر من مرة، وباب رقم 95 الذي خلفه بدأ تصميم علاجي مع تلك الطبيبة الأنيقة التي وعدتني بأن هذا الكابوس سينتهي قريباً.
وها أنا اليوم متفائلة وأطالب المرض بشيء واحد: «أيها الخبيث، استطعت أن تخرق جسدي وتوهمه بأنك أقوى مني، أعترف لك بأنك فزت بالجولة الأولى، ولكن اليوم الكرة في ملعبي ولن أدعك تلهو على أرضي، أخرج من دون عودة. أنا لا أريد خوض معركة معك. أخرج بسلام، اتركني أستمتع بمستقبلي مع أحبائي. أنت بائس ومقطوع من شجرة فلا تجعل خبثك مفعماً بالكراهية وحب الانتقام ممن هم يستمتعون بالحياة».
TT
لحظة خانني جسدي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة