سذاجة ما بعدها؛ التخيّل أن أولويات الإدارة الأميركية الحالية متوافقة تمامًا مع هواجس أبناء منطقة الشرق الأوسط. غير أن الواقعية تقتضي بتقبّل حقيقة أن دول المنطقة عاجزة بقواها الذاتية عن تغيير توجّهات إدارة يبدو أنها رسمت خارطة أولوياتها الإقليمية.
في الزمن الجميل كنا أبرياء نصدّق شعارات واشنطن عن الحرية، ودعاوى موسكو وبكين عن حق الشعوب في تقرير مصائرها. كنا نصدّق أيضا أن الغاية من زيارات ساسة القوى إلى المنطقة «الاطلاع» و«التشاور»، كما كنا نسمع، وينتظر منا أن نقبل ونتفاءل. إلا أننا بعدما نضجنا أدركنا أن تفاصيل تاريخنا وخلجات حاضرنا وهمساتنا حتى داخل بيوتنا محفوظة في «أرشيفات» العواصم والمدن الغربية الكبرى. كذلك، كنا نصدّق إبّان حقبة الحرب الباردة عبارة «المحافظة على التوازن» بين الدول العربية وإسرائيل، غير أن مثل هذه العبارات اختفت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وما عادت واشنطن في عهد الأحادية القطبية تتردّد في قول الحقيقة التي هي «المحافظة على التفوّق النوعي الإسرائيلي».
اليوم نحن أمام مرحلة بالغة الحساسية في علاقات العرب والغرب محورها «مكافحة الإرهاب».
أصلاً المعنى السياسي لكلمة «إرهاب» اعتمدته الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها، الولايات المتحدة، التي كانت أول من ميّز بين «الإرهاب»، أي العنف عندما يستخدمه خصومها ضدها.. و«النضال من أجل الحرية»، أي عندما تستخدم هي أو يستخدم حلفاؤها العنف ضد خصومها. ومن هذا المنطلق، دأبت وزارة الخارجية الأميركية على إعداد قوائم سنوية بـ«الدول الداعمة للإرهاب»، وكانت تضم دولاً تناوئ السياسة الأميركية، منها إيران. ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 – التي تحل ذكراها السنوية غدًا – اكتسب موضوع مكافحة «الإرهاب» بُعدًا جديدًا في عهد إدارة جورج بوش الابن يقوم على مبدأ «تجفيف منابعه» وضرب داعميه الفعليين والمفتَرَضين والمحتملين على مستوى العالم. وعلى أساس تقسيم العالم بين «نحن» و«هم» شُنت الحرب على طالبان ابتداءً من أفغانستان واحتل العراق وطورد تنظيم «القاعدة» في كل مكان. باراك أوباما الذي خلف بوش الابن في البيت الأبيض جعل «التغيير» شعار حملته الانتخابية. والتزم أمام ناخبيه بقطع العلاقة مع نهج بوش الهجومي، والتركيز على إنقاذ أميركا من أزمتها الاقتصادية، وسحب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، والعمل على تسوية النزاعات الدولية سلميًا. والأرجح أن نية أوباما كانت سليمة عندما تصوّر أن «عدوانية» بوش، ومن خلفه «المحافظون الجدد»، أساءت إلى سمعة أميركا أكثر مما أفادتها. وربما كان أيضا مخلصًا عندما بدأ جولات عالمية للاطلاع على التعقيدات المحلية والإقليمية التي تعامل معها سلفه تبعًا لقناعات آيديولوجية يمينية متشدّدة يرفضها تمامًا أوباما والليبراليون والتقدميون الأميركيون. غير أن الرئيس الآتي إلى موقع القرار تحت شعارات أخلاقية مثالية وفضفاضة، جوبه بواقع غير مُستساغ.
بدايةً، اكتشف أنه عاجز عن منع اليمين الإسرائيلي من مواصلة سياسة توسّع استيطاني لا تهدّد صدقية الاعتدال الفلسطيني فحسب، بل تهدّد أيضا منطق الاعتدال وتعزّز حالة التشدّد في العالمين العربي والإسلامي.
وبعدها، فشل التعاطي الأميركي المستند على الفهم «الأكاديمي» للديمقراطية مع ظاهرة «الربيع العربي»، وبالأخص، إزاء صعود الإسلام السياسي. وكذلك أخفق في فهم العلاقة – أو رفض الاعتراف بوجود علاقة – بين تنامي نفوذ إيران الناشط على المستوى المذهبي في المنطقة العربية.. وردّة الفعل المذهبية المضادة في الشارع السنّي الذي يشكّل الغالبية في عربيًا وإسلاميًا.
وعلى أثر إصرار أوباما على غضّ النظر عن فظائع نظام بشار الأسد منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية في مارس (آذار) 2011، بل والاختباء وراء «الفيتوهات» الروسية والصينية لتبرير الإحجام عن فعل شيء حتى بعد استخدام السلاح الكيماوي، أدركت موسكو أنها تتعامل مع إدارة أميركية سلبية همّها الأساسي غسل أيديها من أي منطقة حارة. وهذا الاقتناع أتاح لفلاديمير بوتين استخدام العصا الغليظة في أوكرانيا، وضم شبه جزيرة القرم.
الآن نحن بصدد تحرّك أميركي غير معهود في عهد أوباما تسبّبت به فظائع تنظيم «داعش» في العراق.
واشنطن منهمكة الآن ببناء «تحالف عريض» لمواجهة «داعش»، وتريد من الدول العربية والإسلامية التدخّل ميدانيًا ضد الجماعة التكفيرية المتطرّفة. وهذه سياسة صحيحة بالنظر لما ترتكبه هذه الجماعة، وما يمكن لمقاتليها أن يفعلوه إذا عادوا إلى بلدانهم بعد مغادرتهم العراق وسوريا. ولعل واشنطن ستنجح بفضل ثقلها السياسي كقوة عظمى في بناء هذا «التحالف»، مع حصولها على تأييد مؤكد من كل من موسكو وطهران اللتين كانتا المبادرتين إلى التلويح بخطر «التكفيريين» عند احتدام قمع النظام السوري ثورة شعبه. ثم إن لدى الروس والإيرانيين أزمتيهما المزمنتين مع الإسلام السياسي السنّي الأصولي، سواءً كان «تكفيريًا» أم لا، وروسيا واجهته بضراوة في منطقة القوقاز، وإيران الملتزمة بمشروع «الولي الفقيه» ترى نفسها في خط المواجهة الأول معه.
مقاربة أوباما لمعركته ضد «داعش» أخذت في الحساب ضرورة ألا تبدو وكأنها حرب دفاعية عن نظامين خاضعين لهيمنة إيران في العراق وسوريا. وحقًا أعلن أن نظام بشار الأسد «لا يمكن أن يكون شريكًا» في حرب كهذه. كذلك فرضت إبعاد هادي العامري، أبرز قادة الميليشيات العراقية الشيعية الدموية المتطرّفة، عن حقيبة وزارة الداخلية في حكومة حيدر العبادي الذي وُلّي السلطة خلفًا لنوري المالكي، بعدما حمّلت واشنطن ممارسات المالكي الطائفية مسؤولية خلق بيئة حاضنة في غرب العراق وشماله للجماعات السنّية المتطرفة.
ولكن المطلوب الآن ترجمة واشنطن موقفيها من الأسد والمالكي والعامري.. إلى استراتيجية عملية مسؤولة ضد الجهة التي تأمرهم وتديرهم، من دون تناسي أصابعها في اليمن ولبنان وعموم المنطقة.
مكافحة «داعش» يجب أن تُبنى على إزالة مُسبّب أو مُبرّر وجودها، أي التصدّي مخطط الهيمنة الإيراني الذي تاجر طويلاً ويواصل حتى اللحظة المتاجرة بـ«تحالف الأقليات» وادعاء حمايتها.. لا التحالف معه.
8:11 دقيقه
TT
المنطقة.. بين مواجهي المخطَّط الإقليمي ومتجاهليه
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة