داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

العودة إلى تصفير العداد

في ظهيرة يوم 19 أغسطس (آب) عام 2003، بعد أربعة أشهر من بدء الاحتلال الأميركي للعراق، هزّ العاصمة العراقية انفجار هائل سُمع دويه في بغداد كلها، التي تبلغ مساحتها أكثر من مائتي كيلومتر مربع. وتبين أن سيارة مفخخة استهدفت مقر الأمم المتحدة، الذي كانت المنظمة قد استأجرت مبناه كاملاً في عام 1991، بعد أن كان فندقاً بأربع نجوم يحمل اسم «فندق القناة»، نسبة إلى قناة الجيش التي تقع أمامه مباشرة. وكان هذا الانفجار هو الأكبر والأضخم منذ توقف قصف العدوان الأميركي. وأدى إلى مقتل ما لا يقل عن 22 شخصاً وجرح 100 آخرين، معظمهم من العراقيين والأجانب العاملين في المقر يتقدمهم سرجيو فييرا دي ميلو البرازيلي الجنسية والممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة الأسبق كوفي أنان. وحدث انفجار آخر استهدف المبنى نفسه في العام التالي. وتبنى الانفجارين «تنظيم أبو مصعب الزرقاوي».
وتشاء الصدف أن الصحافيين والمراسلين، وأنا بينهم، كانوا على موعد في اليوم التالي مع ممثل الأمم المتحدة للتحدث عن تطورات الأحداث، بعد سقوط النظام السابق، وبدء رحلة الألف ميل التي لا يعرف أحد متى تنتهي.
في يوم 21 مايو (أيار) الحالي، أصدر مجلس الأمن القرار 2470 لعام 2019، ونقرأ في ديباجته ونصه الأفعال الشهيرة في كل بياناته السابقة واللاحقة: «إذ يؤكد من جديد. وإذ يُعرب عن أمله. وإذ يُرحب بالجهود. وإذ يُهيب بالمجتمع الدولي. وإذ يُعيد التذكير. وإذ يُشدد على. وإذ يُشير إلى جميع قراراته السابقة ذات الصلة بالعراق، وعددها 17 قراراً»، بمعدل قرار سنوي واحد منذ 2003 إلى 2018 (أصدر في عام 2004 قرارين). والبيان يشبه افتتاحية رديئة لصحيفة تقليدية في نظام شمولي تطلق آراء عمومية يمكن أن يفسرها من يشاء كيفما يشاء.
لا يحتاج المرء إلى كثير من الذكاء، ليعرف أن كثيراً من قرارات مجلس الأمن الدولي حبرٌ على ورق، آخرها مثل أولها، في طريق مغلق لا منفذ منه ولا إليه. والخلاصة الأولى لقراءة القرار الأخير تفيد أن شيئاً لم يتغير منذ بداية الاحتلال الأميركي إلى هذا الصباح. وإذا كتب الله لنا عمراً فإننا سنقرأ القرار نفسه برقم جديد في عام 2050. «كلمات ليست كالكلمات» كما تقول المطربة الشهيرة ماجدة الرومي؛ «سيادة العراق ووحدته وسلامة أراضيه واستقراره وازدهاره وأمنه وإعادة الإعمار والمصالحة». ولا يغفل القرار أن يشير إلى «برنامج حكومة العراق الوطني» للتصدي للفساد، وتعزيز المؤسسات الحكومية التي تمتلك مقومات البقاء». وكله إنشاء في إنشاء.
واعتدنا في الصحف العراقية الحكومية في النظام السابق أن ننشر افتتاحية في الذكرى السنوية لثورة 17 يوليو (تموز) كل عام. وكان أحد الزملاء متخصصاً بهذا النوع من الافتتاحيات، ويتحفنا كل عام بافتتاحية عملاقة بدايتها في الصفحة الأولى، وتتمتها في صفحة الوفيات. وكنا نعجب بقدرته الفائقة في كتابة افتتاحية طولها أكثر من كيلومتر خلال أقل من نصف ساعة! وفي ساعة سلطنة مع إحدى أغاني كوكب الشرق أم كلثوم اعترف الزميل أن كل الافتتاحيات التي كتبها خلال السنوات العشر الماضية هي تكرار للافتتاحية الأولى، وكل ما كان يفعله في السنوات اللاحقة هو تغيير جملة «الذكرى السنوية الأولى إلى الذكرى السنوية الثانية أو الثالثة أو العاشرة». وفلسفته في هذا الشأن أن «القيادة» لم تعترض على الافتتاحية الأولى، ولذلك فمن الأفضل تكرارها في السنوات اللاحقة... و«يا دار ما دخلك شر»!
وهكذا نحن اليوم إزاء قرارات لمجلس الأمن، كلها تكرار لما ورد في القرارات السنوية السابقة، مع أنه تم تغيير الأمين العام الغاني كوفي أنان والكوري الجنوبي بان كي مون، ووصلنا إلى البرتغالي الحالي أنطونيو غوتيريش. وما زالت القرارات السابقة نفسها ما دامت حظيت بارتياح الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. القرارات ليس فيها أي جديد باستثناء تجديد فترة عمل بعثة «يونامي». ومصيبة المصائب، أو أم المصائب، أن قرار التجديد السنوي يصدر بناءً على طلب حكومة العراق الحالية والسابقة وقبل السابقة، وكل القرارات والإجراءات لا تتم إلا بموافقة الحكومة. وهي تُعدد المجالات التي يُطلب من البعثة تقديم المساعدة للحكومة في إطارها، وهي مجالات واسعة جداً، لكن القرار يقرن كل مساعدة بموافقة الحكومة العراقية، لذلك فإن عمل البعثة الأممية يعتمد كلياً على ما يقبله النظام الطائفي الفاسد والفاشل. عدنا إلى تصفير العدّاد مرة أخرى!
أما قضايا القمع والانتهاك الجسدي لحقوق الإنسان، والتغيير الديموغرافي، وتزوير الانتخابات، وتهريب النفط الواسع إلى إيران، وكذلك تحويل العملات الصعبة إلى طهران، وحرمان ملايين السكان، خصوصاً في الجنوب من مياه الشرب، وتردي منظومة الكهرباء في معظم المحافظات، والفساد العام، والسجون، والبطالة، وسوء التعليم، وتفشي الأمراض والأوبئة، ومخيمات اللاجئين، والتعامل الطائفي والعنصري مع العراقيين، وتحول الميليشيات المدعومة من إيران إلى دول داخل الدولة. فكلها أمور «هامشية» لا تتماشى مع «إذ يُعرب، وإذ يُرحب، وإذ يُهيب، وإذ يُعيد، وإذ يُشير، وإذ يُشدد»، ولذلك لا أثر لهذه القضايا الحساسة في أي قرار منذ 2003 إلى 2019.
أي تقرير هذا الذي لا يُشير، ولو بسطرين، إلى تصفية الأطباء والعلماء وأساتذة الجامعات والأدباء والإعلاميين وضباط وطياري الجيش السابق؟ أي تقرير هذا الذي لا يُشير إلى اغتيال المتظاهرين، واستمرار اعتقال السياسيين وقيادات الجيش السابق بلا محاكمات، والإخفاء القسري لآلاف من أبناء محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى؟
ولكي لا تصبح الأمم المتحدة شاهد زور على جريمة تدمير بلد عظيم وإبادة شعب عريق، فإن المفروض أن تُعد بعثة الأمم المتحدة المقيمة في العراق تقريراً سنوياً اعتماداً على خبرائها في مختلف المجالات، ويُقدم إلى مجلس الأمن بدلاً من تقرير الحكومة المتهمة أساساً بالعجز والفشل والفساد. فإذا كان المجلس يعتمد على ما تقوله الحكومة عن «منجزاتها»، فهذا أمرٌ يدعو إلى الشك، ففي إمكانها أن تزعم أنها أطلقت مركبة فضائية إلى كوكب عطارد لمطاردة الميليشيات، ويصادق المجلس على ما تزعمه.
ما هي الحاجة إذن إلى بعثة الأمم المتحدة؟ الصحيح أن تكتب البعثة تقريراً مفصلاً عمّا تم إنجازه، وما تعثر من الخطط.
بالإنجليزي الفصيح: القرار 2470 لعام 2019 والقرارات السابقة المشابهة لا تُقدم أي أمل للشعب العراقي، لكنها توفر فرص عمل في بعثات الأمم المتحدة فقط.