علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

لماذا كان سيد قطب عضواً في نواد كنسية أميركية؟!

ثم عرض سيد قطب بعد ذلك للعصور المظلمة في تاريخ الكنيسة، التي كانت ذروتها محاكم التفتيش، ولعداء الكنيسة لحرية الفكر، واضطهاد الأفكار الحرة وشنّ الحرب عليها في عصر النهضة. وعرض لصراع الدين مع العلم على هذا النحو: «ولما كانت الكنيسة لا تريد أن تكتفي بالدين، كما هي طبيعة المسيحية، ولا أن تقنع بالتحكُّم في الآخرة كما جرت البابوية، فقد اصطدمت نظرياتها عن الأرض والأفلاك والمواد بنظريات العلم القائمة على الدرس والتمحيص والتجربة والواقع، وفتوحات العلم لا تدع مجالاً للشك في عظمة هذه الأداة المستجدّة، فقد نشأت أجيال من العلماء والمفكرين تكره الكنيسة وتحتقرها معاً، وتكنّ في نفوسها العداوة والاشمئزاز للدين ولرجال الدين. ومن هنا كانت الجفوة بين الدين والعلم، وبين الكنيسة والفكر في حياة الأوروبيين!».
في الطبعات اللاحقة حذف من هذا النص كلمةً وجملاً، وأضاف إليه جملاً جديدة؛ فهو قد حذف منه جملة «كما هي طبيعة المسيحية»، وجملة «كما جرت البابوية». وحذف كلمة «الدين» في الجملة التي قال فيها: «ولا تريد أن تكتفي بالدين» وأبدل بـ«الدين»... «ملكوت السماء». وحذف من النص هذه الجملة: «... الدرس والتمحيص والتجربة، ولما كانت نظريات العلم تؤيدها التجربة والواقع، وفتوحات العلم لا تدع مجالاً للشك في عظمة هذه الأداة المستجدة». وأبدل بها هذه الصيغة: «... الدراسة الطليقة مما فرضته الكنيسة من مقررات لم تقم إلا على علم ناقص من علم البشر، ولا علاقة لها بالدين في أصوله». يصل سيد قطب في عرضه لتاريخ المسيحية الغربية إلى عصر ظهور الرأسمالية، ويذكر في هذه الفقرة أن رجال الكنيسة انضموا إلى معسكر أصحاب رؤوس الأموال ضد معسكر العمال.
ويعلل معتذراً اصطفافهم ضد العمال بانتقال «السلطة الحقيقية من يد الدولة إلى أيدي أصحاب رؤوس الأموال، ولما لم يكن بدّ للكنيسة أن تنضم للسلطة الحقيقية، فقد انضمت إلى معسكر رأس المال!».
ويستدرك في الفقرة التالية للفقرة السابقة، فيقول: «لا أحب أن أظلم رجال الكنيسة الأوروبية جميعاً، فقد يكون منهم المستنفع الذي يدرك مركز القوة فينضم إليه، ويتخذ من الدين مخدراً للطبقات الكادحة، يصدها عن الثورة لحقها، ويخذلها عن طلب النصفة في الدين، ويمنيها العوض في الآخرة. ولكن بعضهم لا بد أن يكون مخلصاً في دعوة من هذا القبيل، حسب فهمه لعقيدته المسيحية، فالمسيحية في جوهرها تزهّد، وفي طبيعتها كبت للحيوية، ودعوة إلى البعد عن أسباب الحياة المادية، واحتقار كذلك للحياة الظاهرة، وتطلع إلى ملكوت الرب، وعالم السماء».
هذا النص في الطبعات اللاحقة أبقاه كما هو، ولم يغير فيه سوى إضافة زيادة إلى الجملة التي قال فيها: «حسب فهمه لعقيدته المسيحية»، فلقد زاد فيها هذه الجملة: «كما رسمتها الكنيسة».
هذه النصوص التي بيّنا ما تعرضت له من حذف وتعديل وزيادة في هذا المقال وفي المقال السابق، هي من ضمن الفصل الأول من كتابه: «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، الذي عنونه بـ«الدين والمجتمع بين المسيحية والإسلام». وفي فصل من الفصول الأخيرة من الكتاب، الذي عنونه بـ«من الواقع التاريخي في الإسلام» يعلّق سيد قطب على جملة قالها ج. ه. دينسون في النص المقتبس منه، وهي: «أما النظم التي خلقتها المسيحية، فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام» يعلق في الهامش، فيقول: «سبق أن قلنا إن أوروبا لم تكن مسيحية في يوم من الأيام؛ فهذا الانهيار والتفرق الذي يشير إليه المؤلف لم ينشأ من طبيعة المسيحية، بل من تصوُّر الأوروبيين للمسيحية».
هذا التعليق حذفه في الطبعات اللاحقة للكتاب، لأنه كان دفاعاً عن المسيحية الأولى، وعن المسيحية في الشرق الأدنى.
نلحظ أن كلّ ما فيه ثناء على المسيحية في روحانيتها حذفه أو خفّف من عبارات الثناء فيه. وكل ما فيه دفاع وتفهُّم لتاريخ المسيحية والكنيسة في الغرب كذلك حذفه. وبعد أن كان في النص الأصلي يقصي الكنيسة عن أي إدانة، ويحصر الإدانة في تصور الأوروبيين للمسيحية، صار بعد التعديل يدين الكنيسة معهم.
وإذا كانت عبارات مولانا محمد علي في عرضه لمرحلة الصراع المرير بين الديانة المسيحية والعلم تطفح بالشماتة في الديانة المسيحية وفي معتنقيها، فسيد قطب استخدم عبارة لطيفة في عرضه لذلك الصراع، وهي أن ثمة جفوةً حصلت بين الدين والعلم، وبين الكنيسة والفكر في حياة الأوروبيين. كما نلحظ أنه حذف العبارات التي تضمنت إشادة وتعظيماً بالعلم الغربي المحض وبوسائله وأساليبه.
هناك أسطر حذفها سيد قطب لسبب مختلف جداً عن الأسباب السابقة. لأنه في ختام هذه الأسطر قال: «... حتى يظهر الدين العالمي الجديد: دين الإسلام». وهذه العبارة تظهر ما أخفى من إفادة من كتاب مولانا محمد علي «الإسلام والنظام العالمي الجديد». وهذا ما اتهمه به عز الدين إسماعيل عند مراجعته للكتاب في طبعته الثانية الصادرة في عام 1952.
قلتُ في المقال السابق: «قد يخفى على البعض أن ما هو ميسّر لمولانا محمد علي أن يقوله في المسيحية بتعصب وغلو ديني كان عسيراً على سيد قطب أن يقوله في السنوات التي اشتغل فيها على كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام)». وسأشرح هنا هذا الكلام.
التهجّم على المسيحية والتجريح فيها كان غير مقبول وغير سائغ في العالم العربي، خصوصاً لدى المثقفين المسلمين العلمانيين ولدى علماء الدين من ذوي الثقافة الحديثة والاتجاه المنفتح المستنير. كما كان غير مقبول وغير سائغ التهجّم على الإسلام والتجريح فيه من قبل مثقف عربي مسيحي علماني أو لاهوتي عصري مستنير. لهذا رأينا عباس محمود العقاد حين قدم كتاب مولانا محمد علي للقارئ العربي في نسخته الإنجليزية أخفى ذلك الجانب الرديء في ذلك الكتاب، لأنه سيقلل من قيمة الكتاب، وسيُعاب على العقاد أن يمدح كتاباً طائفياً فجّاً.
سيد قطب قبل أن يخرج كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، اشتهر بأنه ناقد أدبي يتوخى أن يكون في رؤاه عصرياً وحديثاً، وكان له قراؤه من المعنيين بالأدب من المسيحيين في مصر وفي العالم العربي. ولو تعصب ضد دينهم، فحتماً سينفرون منه حتى لو كانوا علمانيين أو ملاحدة.
المستبطن لكتب سيد قطب الإسلامية هذا إذا استثنينا كتابه «معالم في الطريق» سيعرف أنه في المحل الأول يخاطب المثقفين والقراء أصحاب الثقافة المعلمنة، لا رجال الدين والهيئات الدينية الرسمية، والقرّاء الذين ثقافتهم ثقافة تراثية خالصة، أو ثقافتهم ثقافة دينية محضة. وهؤلاء الذين يخاطبهم في المحل الأول منعتقون من التحيزات الدينية الصارخة والأفق الديني الضيق.
كتاب سيد قطب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» يدخل ضمن مشروع أميركي سياسي حشدت فيه المسيحية، ومعها الإسلام، لإضرام حرب دينية على الشيوعية. وهذا ما أهّل سيد قطب من قبل الطرف الأميركي الاستخباراتي لأن ينال بعثة مفتوحة لأميركا. وكان من مقتضيات هذا المشروع خلق تعاون وتوافقات آنية وعاجلة ما بين المسيحية والإسلام من أجل تحقيق ذلك الهدف المشترك، من خلال الدين، وبواسطة الدين، كإحدى آليات مواجهة الشيوعية والحد من انتشارها.
وبالنسبة لسيد قطب، تضمن برنامج بعثته إلى أميركا زيارة الكنائس هناك، بل كان عضواً في أكثر من نادٍ من نواديها في المدن والبلدات الأميركية التي عاش فيها! يقول سيد قطب في كتابه «الإسلام ومشكلات الحضارة»: «ليس أكثر من الأمريكان تشييداً للكنايس، حتى لقد أحصيتُ في بلدة واحدة، لا يزيد سكانها على عشرة آلاف، أكثر من عشرين كنيسة، وليس أكثر منهم ذهاباً إلى الكنايس في ليلات الأحد وأيامه، وفي الأعياد العامة وأعياد القديسين المحليين، وهم أكثر من الأولياء عند عوام المسلمين! كنتُ ليلة في إحدى الكنايس ببلدة جريلي بولاية كولورادو، فقد كنت عضواً في عدة نوادٍ كنسية في كل جهة عشتُ فيها ما بين واشنطن في الشرق وكاليفورنيا في الغرب. إذ كانت هذه ناحية هامة من نواحي المجتمع تستحق الدراسة عن كثب من الباطن لا من الظاهر، وكنت معنياً بدارسة المجتمع الأمريكي...»!
سيد قطب روى شيئاً مدغماً من تجربته مع الكنائس، ليصل إلى نتيجة مفادها أنه «ليس هناك من هو أبعد من الأمريكي عن الشعور بروحية الدين واحترامه وقداسته. وليس أبعد من الدين عن التفكير الأمريكي وشعوره وسلوكه». أما تعليله لعضويته في الكنائس، فتعليل غير مقنِع؛ فكيف يتاح لمبتعث، ابتُعث لأميركا لتعلُّم اللغة الإنجليزية بدءاً من A.B.C، ثم بعد أن يلِّم بقدر منها، يدرس شيئاً من مناهج التعليم والتربية الأميركية، أن يدرس المجتمع الأميركي «عن كثب ومن الباطن»؟! هذا «الكثب» وهذا « الباطن» وهذا العمق في المجتمع الأميركي، بحسب ما ذهب سيد قطب، لا يكون إلا في الكنائس! إن تعليله السالف يستدعي مباشرة السؤال المصري العامي الحاذق: «اشمعنى يا ابو السِّيْدْ الكنائس، الكنائس وبس؟!». وللحديث بقية.