إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

مولد الآنسة أم كلثوم

حطت طائرتها في مطار الحبانية العسكري. وكانت في انتظارها سيارة رسمية نقلتها إلى القصر الملكي في بغداد. سلّمت على الملكة الأم عالية، كما تقتضي الأصول، ثم ذهبت إلى فندق «ريجنت بالاس» لتستريح وتستعد لإحياء حفل عيد ميلاد فيصل الثاني، في الليلة ذاتها. ونقلت الإذاعة الحفل وسهر البغادّة في المقاهي والبيوت مع الصوت المُسكر. ووقف رئيس الوزارة توفيق السويدي ليعلن: «من حقّنا أن نقبض اليوم على أم كلثوم بتهمة سرقة قلوبنا!». أرادوا توسيمها بوسام الرافدين، أعلى درجات التكريم، لكن قانونه كان يقصره على الرجال. وكان لا بد من تعديل القانون ليوضع الوسام، للمرة الأولى، على صدر امرأة، فلاحة مصرية من طماي الزهايرة.
كان ذلك في ربيع 1946 وفي الشهر المقبل يكون قد مرّ 120 عاماً على ولادة أم كلثوم إبراهيم السيد البلتاجي. شيخ مؤذن أنجب مغنية. واحدة من معدودات يصحّ عليهن لقب مطربة. أما في السجلات الرسمية فقد جاء أنها ولدت سنة 1908 تبخرت من عمرها 10 سنوات. ما جدوى التصغير لمن كان في مقامها؟ تمرّ العقود على غيابها وهي هنا. حاضرة على الشاشة وفي السيارة وهاتف الجيب. وسيحتفل العرب بذكراها. وسيغضب بعضهم لأن إسرائيل أطلقت اسمها على شارع في القدس. لماذا تهتز الشوارب؟ أليست مدينة عربية؟ أليست القدس لنا؟ سيسأل صغار العابرين في الشارع آباءهم وأمهاتهم عمن تكون أم كلثوم، وسيعرفون أنها الفنانة التي طافت العواصم تجمع المال لرد النكسة. غنّت: «أصبح عندي الآن بندقية... إلى فلسطين خذوني معكم». وكان ذلك في العصر الجليدي.
أما المصريون، فلا ينتظرون مناسبات لاستذكارها. كل التواريخ تصلح للاحتفاء بأم كلثوم. وهذا «كتاب اليوم» يصدر عدداً تاريخياً جمع فيه الزميل محمد شعير وثائق عنها ومجموعة مقالاتها التي نشرت في «آخر ساعة» و«الهلال» و«الكواكب». نعم، كوكب الشرق كاتبة في «الكواكب». ونعرف من الكتاب الجميل أن لقب «آنسة» لم يطلق عليها إلا بعد قدومها من قريتها إلى القاهرة. وكانت قبل ذلك تُعرف باسم «السيدة أم كلثوم» حتى وهي صغيرة. وتقول في مقال لها، منشور سنة 1947: «عندما كنت طفلة أغني في الأفراح، كانت أمنيتي أن تحدث مشاجرة بين المدعوين لأتفرج عليهم وأستريح من عناء المغْنَى. إن الليلة المتعبة هي تلك التي تمرّ بسلام فلا يحدث ضرب ولا ترتفع فيها الكراسي في الهواء».
مقالاتها صورة لما كانت تتمتع به من نباهة وفكاهة. رسمت في عدد منها صوراً قلمية أخاذة لعدد من المشاهير الذين اقتربوا منها، حاذوها وحاذتهم. أهذا أسلوبها أم أن عينين خبيرتين مرّتا على المسودات؟ كان الصحافي مصطفى أمين من حلقة أصدقائها. ولا يهم إن كان تزوجها وعاشا معاً 11 عاماً، أمْ لمْ. المهم أنها عرفت كيف تلقي سحرها على رجال كان كل منهم أستاذا في مجاله. أحدهم أحمد رامي الذي كتبت أنها عرفته قبل أن تراه، من قصيدته الرقيقة: «الصبّ تفضحه عيونه...»، وكان يومئذ يقيم في باريس. وقد أطلعها أستاذها الشيخ أبو العلا على القصيدة ولحنها لها وراحت تغنيها. تصف أم كلثوم شاعرها أحمد رامي بأنه «مجموعة روحانية من الإحساس الملهم، والثورة العميقة المكبوتة، والهدوء الرزين، مع ظرف نادر وخيال مُحلّق وخاطر سريع وإخلاص لذات الإخلاص، ذلك هو رامي». والنبي كمان يا ست.