أحلم عندما أكبر أن أصبح «باليرينا» تجيد رقص الباليه. لكن المرض ضرب أوليفيا بشدة العام الماضي، حتى أنها لم تعد تستطيع مجرد التفكير بذلك الحلم. انتهى تشخيص وضعها الصحي، إلى اكتشاف أنها تعاني نقص مناعة أولي، فبدأ علاجها على الفور، وها هي بعد عام يمكنها القفز نحو النجوم. الكلمات السابقة مُقتطفة من صفحة إعلانية لفتت انتباهي الأسبوع الماضي في مجلة «تايم» الأميركية. الإعلان يخص مؤسسة «جيفري موديل» الخيرية، والمتخصصة في تقديم العون الطبي والدعم النفساني، لمرضى حالات نقص المناعة. لستُ أرى غضاضة في البوح هنا أن أول ما شد اهتمامي في الصفحة هو صورة طفلة ترتدي ثوبها «الباليريني» الأبيض، وتجمعها مع حفيدة لي قسمات وجهها الطفولي، عمرها القريب من عمر حفيدتي، ثم، ويا للأقدار، إنه الحلم ذاته، ذلك أن صغيرة أسرتي تكثر من تكرار كم تحب دروس الموسيقى، وأنها تحلم أن تتعلم كيف تؤدي رقصة «الباليرينا» على نحو يلقى إعجاب معلمتها في المدرسة.
رغم التباين الواضح في الحالتين، إلا أن صورة «سندريلا» الأسطورية، أطلت أمامي فجأة، على صفحة الإعلان ذاته. في حلم أوليفيا، رأيت تلك الفتاة الحالمة، التي كاد فيروس نقص المناعة أن يحول بينها وبين حلمها، تماماً مثل حلم صبية الأسطورة، التي تعاني ظلم زوجة أبيها سنوات طويلة، ثم يطل شعاع الأمل أمامها عندما تتاح لها ذات مساء فرصة حضور حفل راقص، ويقع اختيار الأمير الأسطوري عليها كي ترقص معه، لكنها تفر هاربة وتترك وراءها حذاء أعطته لها ساحرة، وهو الذي سوف يوصل أمير الأسطورة إليها، فتعود إلى القصر، وإذ يتحقق لها الخلاص من قسوة زوجة الأب وظلمها، تنعم بالعيش حياة مرفهة. مُسترجعاً أسطورة تنعش الخيال، ومستحضراً واقع الحاضر، وجدتني أتساءل، تُرى كم من «سندريلا» تعيش في أحلام فتيات على امتداد العالمين العربي والإسلامي، إنما تحول عقبات عدة دون تحقيق أحلامهن.
عبر الأزمان والعصور، وفي مختلف الثقافات والأعراق، تتعدد الأحلام وتتباين العوائق، لكن المحصلة هي ذاتها: إبقاء أي تطلع يحلم بغد أفضل، بلا مساس بالمنهج الأساس، وغير متعارض مع نسيج المجتمع، حبيس عادات وتقاليد يُفترض أن منطق العصر تجاوزها. يقع هكذا تخشّب عندما تسود لغة قيود تتذرع بأن فتح الأبواب أمام أي جديد سوف يؤدي إلى نسف القديم كله، الصالح كما الطالح، وهذا تذرّع واهن يلّج في عتوّ فقدان الثقة بالنفس، ونفور الخوف من كل تطوير. الأرجح أن كل «سندريلا» تحلم، وسط ظروف بالغة التعقيد، بالتحليق في فضاء أوسع عربياً أو إسلامياً، بأي من مجالات التعليم، الفن، التجارة، أو حتى الارتقاء بنمط العلاقات الأسرية، سوف تواجه محاولات شتى تضع عوائق عدة في طريق أحلامها.
ضمن هذا السياق، يمكن استحضار مثال ليس ببعيد. كانت الفتاة ملالا يوسفزاي في الحادية عشرة عندما بدأت تكتب مذكرات تحكي عبرها عن حلمها في أن تصل، هي وفتيات بلدها، لأعلى مستويات التعليم. عندما بلغت الخامسة عشرة، أطلق مسلحو «طالبان» الرصاص يوم 9 - 10 - 2012 على ملالا كي يغتالوا حلم «سندريلا» الباكستانية في العلم. بعد ستة أعوام، نهار التاسع والعشرين من مارس (آذار) 2018، عادت ملالا، ذات العشرين عاماً إلى بلدها تحمل سبق أنها أصغر من حمل جائزة نوبل للسلام. ملالا نزلت في مطار بي نظير بوتو الدولي، التي كانت هي أيضاً، بشكل ما، «سندريلا» حُلمٍ سياسي انتهى باغتيالها.
مع ذلك، ها نحن في خواتيم العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نسمع عمن يطالب بإلغاء حصص الموسيقى في المدارس. من حُسن حظ أوليفيا أنها وجدت في مجتمعها مؤسسة خيرية مثل «جيفري موديل» تسارع إلى علاجها من نقص المناعة، فيُتاح لها أن تواصل حلمها. في الإطار ذاته، أتذكر عندما قال لي صديق مقيم في بلاد بعيدة، أنه يُسمي سيارته «سندريلا»، لم أسأله عن السبب لأني أعرف كم عانى في صباه، هو وأسرته، ظروف حياة خشنة، قبل أن يتيح له المهجر تحقيق حلم الصبا في الحياة الأفضل. كما ترون، الأرجح أن شيئاً من حلم «سندريلا» الأسطورة يداعب خيال كل صبية وصبي يحلمان بحياة أفضل يوماً ما.
7:52 دقيقه
TT
كم مِنْ «سندريلا» تحلم؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة