جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

بانوهات وبنات

في لبنان طريق سريعة يجب تغيير اسمها إلى طريق بطيئة نسبة لزحمة السير الخانقة فيها، وبما أن كل شيء في لبناننا الأخضر يختفي، فحتى الجسور تختفي. فكانت بيروت مستورة بوجود جسر تتنفس من خلاله السيارات وتلتقط أنفاسها المعدومة من فوقه تارة ومن تحته تارة أخرى، إلا أن هذا الجسر هو الآخر اختفى وخرج ولم يعد بعدما تبين أنه في حاجة ماسة إلى تجديد وصيانة من فئة «نهب إيجابي».
المهم، زرت بيروت مدينتي المتجددة على الدوام، وأقول متجددة لأن الطرقات الجديدة فيها تولد بين ليلة وضحاها، فيجد أهلها نفسهم تائهين في مساراتها الغريبة والعجيبة، وهناك طريق قريبة من المنطقة التي يسكن بها أهلي، يا إلهي لو أني أستطيع فهم آليتها وأوقات دوامها، نعم الطريق لها دوام، مثل دوام العمل، ففي وقت من الأوقات تعمل باتجاه بيروت، وفي وقت آخر أجهله أيضاً تسير بالاتجاه المعاكس.
وهذا ليس كل ما رصدته عيني خلال زيارتي الخاطفة إلى بيروت، فلاحظت أيضاً أن طبيعة اللوحات الإعلانية الشهيرة في لبنان وفي العاصمة تحديداً تبدلت هي الأخرى، ولأهمية اللوحات الإعلانية في البلاد فهي تحتل أماكن استراتيجية تحل مكان منظر غروب الشمس وشروقها على طول الساحل.
واختفت هذه المرة إعلانات الساعات والحفاضات وأدوية التنظيف والتطهير وحلّت مكانها صور سيدات، منهن المذيعات والأمهات وسيدات الأعمال وحتى الجدات، ورافقت تلك الإعلانات عبارات قوية، كل منها تعبّر عن موقع السيدة وخلفيتها، ومن ليس لها خلفية سياسية أو إعلامية استخدمت أحفادها ليتذوقوا طعم الشهرة لغاية أوائل مايو (أيار) المقبل.
أعتقد أنكم فهمتهم قصدي هنا، نعم أنا أتكلم عن الانتخابات النيابية المقبلة في لبنان التي تضاهي أي حدث مماثل في العالم، وما استوقفني هو التركيز على النساء وكأن المرأة في لبنان كانت متقوقعة وفجأة خرجت من القمقم لتسيطر على الوضع بإحكام.
فعندما رأيت هذا الكم الهائل من «البانوهات» (وهذه هي التسمية السائدة في لبنان للوحات الإعلانية العملاقة التي تزين وتشوّه الطرقات بعشوائيتها) والبنات، وأعني صور الحسناوات عليها، فتخيلت وكأني في هوليوود، وكأن تلك السيدات يرفعن راية «هاش تاغ مي تو»، أنا امرأة ومع المرأة على طول الدرب، لكن المقام لمن يستحقه وليس بحسب الجنس، وأتمنى أن تزين المرأة اللبنانية البرلمان بفكرها وذكائها وفطرتها السياسية، لكن بعيداً عن التحديات مع الجنس الآخر التي لا تجدي نفعاً.
أما بالنسبة لرجالنا الذين اختاروا آخر ما آلت إليه موضة النظارات الشمسية، فهم أيضاً لم يبهروني بطلّتهم البهية وتسريحة شعرهم «القوية»؛ لأن الشعب تعب بالفعل من صور رجال لا نرى صور بعضهم إلا قبيل فترة الانتخابات اللبنانية، وبعدها تختفي تلك الوجوه وتتم الصفقات والمساومات على المقاعد المحسومة أصلاً.
وما لفتني أيضاً، أن اللبنانيين ينظرون إلى تلك اللوحات، لكنهم لا يرونها؛ لأن نظرهم تعود على غالبيتها، لكن الصرعة الحالية هي مشاركة الجنس اللطيف في معترك الطرقات وعلى أهم نقاط بيع اللوحات.
هناك فنانات في الغرب والشرق، يتوجهن إلى سبل غريبة عجيبة عندما يقسو عليهن زمن انخفاض الشهرة وعدد المعجبين فيلجأن إلى خلق البدع و«التباديع» لكسب الشهرة التي هجرتهن، وهنا أعتقد أن المشاركة في الانتخابات على طريقة الحملات الدعائية اللبنانية تساعد على ذلك وقد يتبعه الفنانون القابعون على الأرفف الأوروبية أيضاً.
في نهاية المطاف، أعتقد أن اللبنانيين لم تعد تهمهم مثل هذه الحملات لأن الحمل الذي يقبع على أكتافهم لن تخفف منه زيارة مرشح قبل الانتخابات؛ لأن أول ما سيفعله هذا الأخير إذا ما حالفه الحظ وفاز هو تغيير رقم هاتفه وربما عنوانه ويترك الدائرة التي فاز عنها وفيها.
ولهذا الغرض، وليس لسواه، أتمنى من شركات اللوحات الإعلانية إعادة توزيعها، فدعوا اللبنانيين وزوار لبنان يرون شروق الشمس وغروبها.