دنيس روس
TT

المشكلة التي جاءتنا من الجحيم

أشار وارين كريستوفر ذات مرة إلى الحرب في البلقان باعتبارها مشكلة من الجحيم، لكن اتضح أن سوريا هي المشكلة التي أتت من الجحيم، نظراً لعدد قتلاها الذي تجاوز نصف المليون، ومشرديها الذين تجاوزوا 11 مليوناً، بين مشردين داخل البلاد ولاجئين خارجها، ولذلك فسوريا هي المأساة الإنسانية الحقيقية. وإن لم يكن الصراع معقداً إلى هذا الحد، لما وجدت الولايات المتحدة نفسها عالقة بين تركيا التي تعد حليفتها في حزب شمال الأطلسي (ناتو)، وما يسمى «وحدات حماية الشعب» الكردية. فتلك «الوحدات» أثبتت بالفعل أنها الأكثر فعالية بين كل القوى التي تتقاتل مع تنظيم داعش على الأرض، والتي نجحت في دحره وإبعاده عن معاقله في سوريا؛ تحديداً مدينة الرقة. وبالطبع، تكمن المشكلة في رؤية تركيا لـ«وحدات حماية الشعب» باعتبارها امتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني»، وهي المنظمة التي أدرجتها الولايات المتحدة على قوائم الإرهاب، والتي شنت عليها تركيا حرباً طويلة.
لم يكن الرئيس إردوغان مخطئاً عندما قال إن «وحدات حماية الشعب» الكردية على صلة بـ«حزب العمال الكردستاني». ومن المفهوم أن إردوغان يخشى من أن وجود منطقة كردية بمحاذاة الحدود التركية السورية قد يكون ملاذاً آمناً لـ«حزب العمال الكردستاني»، لأنه سيوفر لقواته منطقة آمنة للعمليات، يستطيع من خلالها تنفيذ اعتداءات إرهابية في الأراضي التركية. لكن بالنسبة لإدارة ترمب، وفي ظل سقوط تنظيم داعش، حتى وإن لم يدحر بشكل كامل، فهي لا ترغب في التخلص من «قوات حماية الشعب» الكردية، لأنها تمثل القدم الفعلية على الأرض التي تمنع قيام «داعش» مجدداً من قبره، بعد أن بات رماداً.
ويمكن لتركيا أن تشن هجماتها على مدينة عفرين، الخاضعة للسيطرة الكردية والمعزولة بدرجة كبيرة عن المنطقة الكردية الأخرى بشمال شرقي سوريا، التي توجد بها الولايات المتحدة جنباً إلى جنب مع «وحدات حماية الشعب» الكردية.
وسيختلف الحال لو أن تركيا هاجمت مدينة منبج، فربما لن توجد القوات الأميركية هناك بأعداد كبيرة، لكنها ستكون هناك على أي حال. وربما أن إردوغان يحاول إجبارنا على ترك هذه المنطقة حتى تستطيع تركيا توسيع نطاق وجودها داخل سوريا، وإنهاء احتمال تمكن الأكراد من خلق منطقة جوار خاضعة لسيطرتهم على امتداد حدود تركيا الجنوبية.
وقد حاول وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون طمأنة تركيا بأننا نتفهم مخاوفها، لكن جهوده لم تكلل بالنجاح حتى الآن. بالإضافة إلى ذلك، فقد جاءت هذه الأزمة الجديدة بعد أسبوع من تقديم تيلرسون لاستراتيجية بلاده الخاصة بسوريا. ورغم أنه من المؤكد أن أي استراتيجية خاصة بسوريا ستفسد بفعل القوات المتصارعة، وبسبب التحالفات التي تجري في الحرب الدائرة هناك، فإن النقطة الأهم التي يشير إليها وزير الخارجية الأميركي هي أن القوات الأميركية في سوريا، التي يبلغ قوامها نحو 1500 جندي، يجب أن تستمر هناك في الوقت الحالي.
وأفاد تيلرسون بأن وجود تلك القوات ضروري لمنع بعث «داعش» من جديد، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة خرجت من العراق مبكراً، مما أحدث فراغاً تمكن «داعش» من شغله. وبحسب تعبير تيلرسون: «لن نسمح للتاريخ بأن يعيد نفسه في سوريا، فإحدى قدمي (داعش) باتت الآن في القبر، وبضمان الوجود العسكري الأميركي في سوريا إلى أن يتحقق النصر الكامل على (داعش)، سوف يدخل (داعش) القبر بقدمه الثانية فوراً».
لكن تبرير تيلرسون لاستمرار الوجود العسكري الأميركي في سوريا، حتى إن كان محدوداً، وهو الأمر المرتبط بالقضاء على «داعش» بصورة نهائية، مرتبط بكثير من المخاوف الأخرى، مثل إضعاف تنظيم القاعدة الذي لا يزال موجوداً في شمال شرقي سوريا، وكذلك حرمان الأسد من قدرته على استعادة قوته، ومواصلة «معاملته الوحشية مع شعبه»، والمساعدة بعد هزيمة «داعش» في تمهيد الطريق أمام «السلطات المحلية المدنية الشرعية لممارسة مهام إدارتها في المناطق المحررة».
وأضاف تيلرسون أيضاً أن «فسخ الارتباط الأميركي بسوريا سوف يمنح إيران الفرصة لتعزيز وضعها هناك». بمعنى آخر، فإن الوجود العسكري الأميركي وضع في اعتباره بعض الأهداف التي تتضمن مواجهة الإيرانيين.
والأهداف التي أشار إليها وزير الخارجية الأميركي صحيحة، ويبقى السؤال: هل الإدارة الأميركية مهيأة لاستخدام الوسائل المطلوبة لتحقيق تلك الأهداف؟
عودة الاستقرار أمر ضروري لإدارة الدولة، لكن المهمة تتطلب إعادة البناء، ويتطلب ذلك كثيراً من المال، وهو ما لا تظهر إدارة ترمب حماسة كبيرة في تقديمه. وحرمان الأسد من فرصة استعادة قدراته القديمة، أو منع الإيرانيين من تعزيز وضعهم في سوريا، يتطلب ما هو أكثر من الكلمات. وقد أثبت الأسد بالفعل أنه مهيأ لتدمير البلاد، بدلاً من تسليم السلطة. والآن، بفضل الروس والإيرانيين، بات الرجل آمناً في مكانه على رأس السلطة، وقد استعاد مناطق في البلاد بعد أن فقدها. فهل يتخلى الروس عنه؟ الإشارات الدالة على ذلك ضئيلة. فتطلعنا، نحن والأوروبيين، لأن نقدم المال اللازم لإعادة الإعمار في وقت وجود الأسد في الحكم لن يكون له سوى تأثير بسيط، سواء على الأسد أو بوتين. فالشيء الوحيد الذي سيؤثر على بوتين هو رؤية كلفة تأييد الأسد، وتأييد التمدد الإيراني الشيعي في سوريا، وهو ما لن يحدث حتى يرى بوتين أن الولايات المتحدة مهيأة لاستخدام سلاحها الجوي القوي لمنع نمو البنية التحتية العسكرية الإيرانية، أو الوجود العسكري الشيعي.
ومن الممكن أيضاً إقناع بوتين باستخدام نفوذه للحد من الوجود الإيراني، حال فهم أن ذلك قد يصعد الأمور بدرجة كبيرة بعد أن يدخل الإسرائيليون على الخط، وحال تضخمت البنية التحتية العسكرية الإيرانية لتشكل تهديداً كبيراً حقيقياً. ومن المؤكد أن إدارة ترمب تعمل على إبلاغ الروس بأن التمدد الإيراني في سوريا قد يشعل صراعاً ربما يتسع، وأن الروس قد يدفعون الثمن في النهاية. صحيح أن للروس وجوداً كبيراً في سوريا، وأنهم يتحكمون فيما يجري، لكن روسيا قد ينتهي بها الأمر بالتورط في صراع لا تتمنى هي نفسها أن تراه متأججاً.
ومرة أخرى، نستطيع أن نرى الوضع المعقد على الأرض، فحديث تيلرسون بشأن الاستراتيجية جاء ليبين السبب في أن لنا يداً فيما يحدث في سوريا، ويوضح كذلك ما نتمناه لمستقبل سوريا.
ويبقى السؤال مفتوحاً عما إذا كنا نطبق الأساليب المناسبة للتأثير على حسابات روسيا، أو على السلوك الإيراني.

- خاص بـ«الشرق الأوسط»