تبدو الانقسامات في بلدنا راسخة، والعودة إلى الانقسام 50 - 50 أمر لا مفر منه، حتى في خضم جائحة وحرب واحتجاجات. ومع ذلك، نجد أنه داخل المساحات من أميركا، التي لديها التزام مهني رسمي تجاه النقاش - مجالات الحجج الأكاديمية والصحافية - لا تزال الأمور كما كانت، أغلب الوقت، منذ أن ظهر دونالد ترمب لأول مرة: معارضته واضحة تماماً، وإلزامية، ويجري تصويرها بوصفها مسألة تتعلق بالفطرة السليمة البسيطة.
ومع ذلك، فإن النظر إلى أرض الواقع يؤكد أنه لا يمكن أن يكون الأمر بهذا الوضوح الشديد، وإلا لما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن. ولنبدأ الآن باستعراض الأسباب التي قد تجعل بعض المترددين غير مقتنعين بعد بكامالا هاريس وتيم والز، وذلك بالعودة إلى حيث بدأ كل هذا: عالم عام 2016، عندما جرى إخبار الأميركيين، الذين لا يميلون عادة إلى التصويت لليبراليين، أنه لا يوجد خيار معقول آخر.
في ذلك العالم، طرحت حملة هيلاري كلينتون على البلاد صفقة ضمنية. ولم يكن الوعد الذي تطرحه مجموعة من السياسات المعتدلة لمجابهة ترمب. الحقيقة أنه في مجال السياسة، كانت حملة كلينتون أكثر ميلاً إلى اليسار إلى حد ما عن البيت الأبيض في عهد باراك أوباما.
بدلاً من ذلك، كان الوعد أنه حتى إذا كنت لا تتفق مع النخب الليبرالية في السياسة، فيمكنك أن تثق بهم في ثلاثة أمور حاسمة: أنهم سيتجنبون الجنون، وسيحافظون على الاستقرار، وسيظهرون مستوى من الذكاء والكفاءة أعظم كثيراً من ترمب وأتباعه.
وكان الوعد بالتزام العقل أول الوعود التي تعرضت للخرق، ففي ظل الظروف الترمبية، خصوصاً في ظل جائحة «كوفيد ـ 19»، انحرفت ثقافة الليبرالية النخبوية نحو التعصب، واحتضنت أفكاراً جامحة إلى درجة لم أتخيلها ممكنة.
في ذلك الوقت، قاوم بعض الليبراليين هذا الانحدار، لكن كثيرين آخرين التزموا الصمت، تحت ضغوط بدت كأنها مكارثية في تهديداتها لسبل العيش والسمعة.
اليوم، يعترف مزيد من الليبراليين بأن الأمور أصبحت مجنونة بعض الشيء لبعض الوقت. إلا أن الاتجاه العام لا يزال يتمثل في تصوير المد العالي لحركة اليقظة السياسية بوصفه مجرد موسم سخيف، لا يمكن مقارنة آثاره بالتخريب اليميني.
إلا أنه في اعتقادي، كلما ابتعدنا عن تلك اللحظة، بدا الضرر أكثر وضوحاً. على سبيل المثال: بعد أن تطرفت المؤسسة الليبرالية بسبب مقتل جورج فلويد، على نحو جعلها ترفض مؤقتاً الجهود الشرطية العادية، لأسباب «مناهضة للعنصرية»، شهدت أميركا موجة درامية من جرائم القتل، على نطاق فريد من نوعه بين البلدان المتقدمة في عصر جائحة «كوفيد»، حيث مات الآلاف والآلاف من الناس دون داعٍ.
أو مرة أخرى، دمجت أميركا في ذلك الموسم العلاجات الكيميائية والجراحية التجريبية وغير المثبتة على آلاف الشباب، الذين يعانون من اضطراب الهوية الجنسية، مع دعم حماسي من المؤسسة الطبية، ثم إدارة بايدن، ببساطة لأن الأشخاص الذين لديهم درجة طبيعية من الشك، تملكهم الخوف من أن ينعتوا بأنهم يعانون من رهاب المتحولين جنسياً.
حتى قبل أن ندخل في قضايا يصعب قياسها مثل الفساد الفكري، والأضرار التي تلحق بالمدارس والحياة الاجتماعية والصحة الذهنية، ثمة ضريبة جسدية أساسية هنا - على «الأجساد»، بحسب اللغة التي يفضلها بعض التقدميين - والتي تقوض ادعاء المعسكر الليبرالي بتمثيل العقل في مواجهة الاضطراب الشعبوي.
والتساؤل هنا: هل هاريس حقاً مؤمنة بكل فكرة أيدتها في إطار الحملة الانتخابية لعام 2020؟ ربما لا. ومع ذلك، لا يوجد أي سبب وجيه للاعتقاد بأنها ستبدي مقاومة مبدئية، إذا دخلت الليبرالية في حالة حمى مرة أخرى.
إلى جانب العقلانية في الداخل، فشلت الليبرالية في تحقيق الاستقرار بالخارج. عندما جرى انتخاب ترمب رئيساً للمرة الأولى، توقعت فترة اختبار - غارات عبر الحدود، وعنف إرهابي، وتنسيق بين خصومنا ضد سلام أميركي متذبذب.
وحدث كل ذلك بالفعل - لكن تحت قيادة جو بايدن، وليس ترمب. الواقع أن موقف الولايات المتحدة اليوم أكثر خطورة مما كان عليه عندما غادر ترمب منصبه، في الوقت الذي تفاقم فيه خطر اشتعال حرب عالمية حقيقية.
لا أعتقد أن كل هذا يعكس اتخاذ قرارات مروعة من جانب إدارة بايدن، لكن في المجمل، يمكنك أن تعاين وهناً شديداً في الليبرالية العالمية الآن - وميلاً إلى التوسع خطابياً، دون توفير الاستثمارات المادية المطلوبة لدعم هذا الخطاب، مع ضعف في علاقتها بالحلفاء، الذين يعدّون صبرنا تجاههم وحمايتنا لهم أمراً مفروغاً منه، ومجابهتها صعوبة في معرفة كيفية التفاوض مع الأعداء، بعد أن أمضت كثيراً من الوقت بإدانتهم. (من الواضح أننا ندفع ثمن تفويت فرصة عام 2023 لإقرار هدنة في أوكرانيا).
وقد يفضل المرء الضعف القائم على حسن النية على البديل الترمبي لرئيس غير أخلاقي يسعى إلى التقشف، ومحاط بأيدٍ في مجال السياسة الخارجية تحاول استخدام شخصيته المتقلبة لإبقاء منافسينا خارج التوازن. ومع ذلك، ربما يبدو أن الصيغة الترمبية قد تمخضت عن نتائج أفضل لسبب ما، في وقت ليس من الواضح فيه على الإطلاق، أن هاريس مستعدة لمجابهة الاختبارات التي تحملها لها سياسات بايدن الخارجية الفاشلة.
أتفهم أننا قريبون بما يكفي من الانتخابات بحيث سيرفض الكثيرون هذه النقطة الأخيرة بشدة. إلا أن الحقيقة أنه رغم الحشود الكبيرة حولها بعد انسحاب بايدن، فإن المرشحة الديمقراطية للرئاسة لا تزال شخصية غامضة فيما يخص توجهاتها السياسة، ولا تزال تحمل سجلاً بوصفها نائبةً للرئيس لا يوحي بالثقة في قدراتها.
بالمقارنة، كانت كلينتون بوضوح صانعة سياسات أكثر جدية، وكان بايدن بوضوح أفضل في التحرك على الصعيد السياسي العملي، وكلاهما كان أكثر خبرة في الاضطلاع بمهام الرئيس التنفيذي للبلاد. وكان اختيار هاريس لرفيقها في الترشح بمثابة مضاعفة الرهان على الرداءة.
والآن، نصيحتي الوحيدة؛ التصويت بضمير مرتاح، بناءً على كل التقلبات والمنعطفات التي شهدناها في الفترة الأخيرة - حتى نكون مستعدين بشكل أفضل للمفاجآت التي لم تأتِ بعد.
* خدمة «نيويورك تايمز»