جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

حب في مأوى المسنين

روت لي آن ماري صديقتي الآيرلندية عدة مرات عن المسنين في مأوى خاص في وسط لندن، مخصص لعناصر الجيش البريطاني السابقين، ولطالما شرحت لي عن الوقت الجميل الذي تمضيه برفقتهم في عطلة نهاية الأسبوع، أو حتى في بحره كلما سنحت لها الظروف.
صديقتي متطوعة في المأوى، وكل ما تقدمه هو القليل من وقتها للتكلم والتسامر مع أناس شهدوا على الحروب وويلاتها، يعرفون جغرافيا العالم عن ظهر قلب، ولطالما أردت مرافقتها إلى أن جاءت تلك اللحظة وذهبت معها إلى المستشفى العسكري في إحدى مناطق لندن الراقية، دخلنا عبر باب يقف عنده حارس، وعبر حدائق وساحات وأرضية من الحجر القديم وصلنا إلى ذلك المبنى الضخم الشامخ، وكانت تقف في رواقه عربات كهربائية يتنقل بها المسنون، وعبر باب خشبي كبير دخلنا إلى جناح يضم مجموعة من المسنين الذين يعيشون في تلك الحجر في آخر محطة من حياتهم، بعدما تعدوا سن الخامسة والستين.
الجنس اللطيف شبه معدوم في المأوى؛ وذلك لأن نسبة النساء اللاتي كن يلتحقن بالجيش قليلة، فكانت هناك سيدة في العقد السابع من عمرها، نشيطة بدنياً وقوية الشخصية تدعى «دجون» قدمت لنا الشراب وبدت سعيدة فوق العادة، والسبب وراء تلك الابتسامة العريضة كان انتظارها لعودة صديقها الجديد الذي يصغرها بأربع سنوات، والذي انضم إلى المأوى منذ نحو الشهر، ولم تخف دجون شعورها تجاه من وصفته بالـ«عجوز الأجمل في المأوى»، وكانت تنتظر وصوله من بروكسل بفارغ الصبر، وحالفنا الحظ أن نشهد على وصول «العريس»، كما يسميه جيرانها المسنون المقهورون ضمنا من علاقة الحب الواضحة بين جدران المأوى.
وما أن طل «العريس» بطوله الفاره، وبنيته القوية التي لم تتأثر بالعمر، حتى ركضت دجون ناسية عملية استبدال وركها التي خضعت لها أخيراً، بدت وكأنها مراهقة في مقتبل العمر، قبّلته ومسكا بيدي بعضهما البعض، وأحضرته إلينا لتقدمه إلي.
ما رأيته في المأوى يختلف كثيراً عما رأيته في مأوى المسنين في لبنان عندما كنت طالبة في الجامعة، أتذكر ملامح الخوف على وجوه مسنينا، لأنهم يدركون أن المأوى هو المحطة الأخيرة قبل الموت، أما المأوى البريطاني فهو محطة أخيرة جميلة ومحترمة في حياة الإنسان عسكرياً كان أم مدنياً.
وكم شعرت بالامتنان بعدما أمضيت نحو ثلاث ساعات من وقتي وأوقفت عقارب الساعة لأقوم بعمل مفيد، وبالفعل كانت من بين أثمن ثلاث ساعات في يوم إجازتي، وأدركت حينها أهمية توزيع أوقاتنا واهتماماتنا، فمثل هذه الزيارة هي من بين أجمل ما يمكن أن نتبرع به لشخص يحتاج فقط للتكلم والاستماع وتبادل أطراف الحديث، وكم تحسرت على وضع المسنين في بلداننا الذين لا يحظون في بعض الأحيان بفرصة التكلم إلى ذويهم الذين تركوهم في المأوى وينتظرون خبر مغادرتهم هذه الدنيا الفانية. أنا لا أقول إن الأجانب وضعهم أفضل من الناحية العائلية. فالكثير منهم لا تربطه علاقة بأهله وأحفاده وأولاده، ولكن وبالمقابل يحظون بعناية الدولة والمستشفى ومحبة المتطوعين الذين يمنحون وقتهم ليكون أفضل هدية لأناس خاضوا الحروب وقاموا بحماية الحدود، ولأناس عاديين تناستهم وتيرة الحياة السريعة وجعلتهم أسيري أسرة المستشفيات. ولكن ولحسن حظهم لم تخل الحياة من لمستها الجميلة، طالما لا تزال تخفق قلوبهم تماماً مثل قلب دجون، فالسن وعلى رأي الأوروبيين «ليس سوى رقم»؛ لأن الإنسان لا يتغير وإن هرم الجسد وأعاق الحركة فهو لا يعيق الشعور والمشاعر، وما أجمل الأمل ولو كان في آخر محطات الحياة!