سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

لبنان في لعبة السلسلة

لن يستقيم وضع لبنان، مهما حسنت نوايا المشرّعين، ما لم تبدأ إصلاحات جذرية وحاسمة، لإنقاذ ما أمكن من العشرة مليارات دولار التي تهدّر سنوياً بسبب الفساد. مبلغ هائل يمكنه أن يجعل من البلد الصغير جنة، ويحميه من الاستعطاء والفقر والمذلة. زيادة رواتب 300 ألف موظف في القطاع الخاص، بما يقارب 100 في المائة دفعة واحدة، كما حدث منذ أيام، في حين يبقى أكثر من مليون وثلاثمائة ألف آخرين في المؤسسات الخاصة، على معاشاتهم الشحيحة، وفوقها تفرض عليهم ضرائب تقضم ما تبقى لهم. هذا مما لا يسمح للحياة أن تستمر بتناغمها وسلامها.
زيادة الأجور حق وصل إلى أصحابه متأخراً، وبعد نضال سنوات ومطالبات في الشارع. وكان الأمل، أن يأتي الإنصاف من جيوب المختلسين والمخالفين، لا من أفواه المحتاجين وبالكاد يعيشون كفافهم.
بدأ الكلام، من الآن، عن رفع أقساط المدارس الخاصة بنسبة 27 في المائة لتتمكن من سد رواتب معلميها الذين طالتهم الزيادة. نسبة تكاد تكون استثنائية في بلد مستعد فيه المواطن أن يأكل زيتوناً، ليعلّم ابناً. مدارس أخرى ستسرّح معلمين لتبقي على أرباحها. القطاع العقاري الذي مسّته الضريبة، وهو في جمود أصلاً، سيدخل على الأرجح في ركود إضافي. ومن كان يحاول أن يشتري بيتاً سيجد أن المالك مضطر إلى رفع أسعاره، ولو كسدت أملاكه. وحتى الضرائب المفروضة على الشركات المالية والمستثمرين، قد لا تكون صائبة، طالما أنها تطال مجالاً متراجعاً أصلاً إلى 32 في المائة خلال السنوات العشر الأخيرة. أما الضريبة على القيمة المضافة ولو بنسبة واحد في المائة، فهي الضربة القاسمة التي ستطال الجميع.
«سلسلة الرتب والرواتب» أقرت على عجل، على أبواب انتخابات، تخشى الطبقة السياسية ألا ترى فيها نتائج تتمناها مع تزايد الضغط الشعبي والحراك المدني، وفوز قوى مدنية في انتخابات نقابية بما يكاد يطيح بمرشحي السياسيين. المؤشرات الشعبية ليست لصالح الحاكمين. والفشل المتراكم لا يمكن إزاحته بقليل من الخطب الحماسية، والوعود الخنفشارية، كما كان الحال سابقاً. الرشوة الصغيرة التي منحت بيد لتأخذ بأخرى، قد تصمد مفاعيلها حتى الموسم الانتخابي أو يتلاشى مفعولها، بأسرع مما تخيل البعض. فارتفاع أسعار السلع الذي سيظهر سريعاً، قد ينبه الفرحين والمحتفين إلى ما لم يكونوا قد أدركوه من قبل.
لا ينقص لبنان الإحصاءات والأرقام، وإنما إرادة المحاسبة ووضع خطة شاملة لبناء دولة حديثة يحكمها القانون. صارت المسايرة والمهادنة ثقافة، والمحسوبية جزءاً من النظام السياسي، وتقاسم الحصص بين زعماء الطوائف شرطاً لاستمرار التوافق بين المكونات المذهبية. ثمة تواطؤ خطير وغير معلن، بين الطبقة الحاكمة وفئة كبيرة من الشعب تروّضت وتدجّنت، وتماهت حدّ فقدان الرغبة في المحاسبة، أو غياب الإحساس بجدوى الاحتجاج، مع أن غالبية ساحقة من اللبنانيين، بحسب الاستطلاعات، تؤمن بأن الفساد تفاقم إلى حد غير مسبوق في السنتين الأخيرتين.
كنا نشتكي شحّ الدراسات وقلة المعلومات، صرنا نتأسف من وفرتها وغياب الحيلة للاستفادة منها، ففيما تعتبر الدولة أن بمقدورها تأمين إيرادات 40 مليار دولار ممن احتلوا الشاطئ اللبناني وأغلقوا الأفق البحري والمتنفس الطبيعي للبنانيين على المتوسط، يتبين أن التخمينات للمساحات جاءت متدنية جداً، وأن هؤلاء يفترض أن يدفعوا للناس الذين سلبوهم حقوقهم الطبيعية، عشرة أضعاف ما يجبى منهم. مليارات أخرى تصرف على جمعيات هي في غالبيتها لمحاسيب سياسيين. ماذا تفعل سبعة آلاف جمعية مسجلة رسمياً في لبنان تتغذى من دماء الدولة، وأوكسجين الفقراء، بينما غالبيتها وهمية ولا نشاط فعلياً لها؟ ولا داعي للتذكير بالمناقصات المشبوهة، والأملاك العامة المنتهكة، وإيجارات المباني للمؤسسات الرسمية التي يمكن استبدال ما هو أقل كلفة بكثير بها، وقطاع الاتصالات الذي يبيض ذهباً، وجبال النفايات التي صعد تلالها النتنة، مستثمرون إلى قمم مالية لم يحلموا بها. لائحة الهدر طويلة وموجعة، وكل الاحتجاجات التي شهدها الشارع منذ سنوات، لم تؤدِ إلى فتح أبواب المحاسبة إلا موارباً وخجولاً، كي لا نقول شكلياً.
السلسلة لم تترافق مع إصلاحات جذرية، أو خطة علمية، لما يريد اللبنانيون أن يكون عليه اقتصادهم وأمنهم الاجتماعي. خطوة ناقصة، لم يفت الوقت لاستدراكها. الورشة قائمة، والسياسيون في اجتماعات ونقاشات، والهيئات المتضررة ترفع الصوت ولو خفيضاً، وتشرح وتفاوض وتنصح وتتمنى لو تسمع.
الاحتياجات تتزايد، عجز الموازنة وصل إلى 5 مليارات دولار سنوياً، الدين العام سيبلغ بعد ثلاث سنوات فقط 110 مليارات دولار، خطة الكهرباء الموعودة وحدها ستحتاج إلى ثلاثة مليارات دولار. لم تعد الملايين في الحسبان، صارت فتاتاً ومن نافل ما يعبأ به. تأجيل المعركة الكبرى مع الفساد، يعني المزيد من الخسائر والأضرار المتدحرجة، بانتظار وقت عصيب، لن يكون فيه بمقدور أحد أن يتهرب من المحتوم. لبنان ليس قائماً فقط على توازنات طائفية وديموغرافية، وإنما أيضاً على تناغم اجتماعي دقيق.
ما بين معركة سلسلة جبال لبنان الشرقية المشتعلة في جرود عرسال وما يرافقها من خلافات، وجبهة تمويل سلسلة الرتب والرواتب، المحتدمة - بين محتفل بالوفرة الجديدة ومرتعب من النتائج الاقتصادية - يعيش لبنان صيفاً حاراً جداً، لا علاقة له هذه المرة بثقب الأوزون، وإنما بثقب أسود في الوعي العام، يبتلع العقلانية حتى يأتي عليها.