إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

بعد سنتين من الاتفاق النووي الإيراني

«الذي يُهادن الطغاة هو كمَن يطعم تمساحاً بأمل أن يكون آخر ضحاياه» (وينستون تشرتشل)
في الذكرى السنوية الثانية للاتفاق النووي الإيراني، سنخطئ جداً إذا ظننا - ولو للحظة - أن «مهندسي» سياسة باراك أوباما، القائمة على تسليم مفاتيح الشرق الأوسط لحكام طهران، يشعرون بالندم.
إطلاقاً.
«الزمرة» المحيطة بأوباما، التي أطلقت يد الحرس الثوري الإيراني في المشرق العربي عندما كانت مولجة بصوغ سياساته الإقليمية، سعيدة جداً بما «أنجزته» على الرغم من «اعترافها» بأن الاتفاق النووي «لم يغيّر سلوكيات» الملالي.
بالأمس، تكرّم علينا روبرت مالي، أحد أبرز هؤلاء، بتغريد مقالة تشارك في كتابتها زميلٌ له في «الزمرة» فيليب غوردن مع ريتشارد نيفيو - الباحث والخبير بالملف النووي الإيراني بين 2011 و2013 - في مجلة «ذي أتلانتيك».
مالي، «التقدمي» المُعجب بـ«حزب الله» اللبناني وحكام إيران والكاره لـ«المحافظين» العرب، كتب في تغريدته الكلمات التالية: «لماذا حقّقت الصفقة الإيرانية مبتغاها، ولماذا منتقدوها مخطئون؟». أما غوردن ونيفيو فلقد اختارا عنواناً لمقالتهما «الصفقة الأسوأ التي لم تكن كذلك أبداً!».
في المقالة كتب غوردن ونيفيو، حاملَين على انتقادات الرئيس دونالد ترمب وقيادات بارزة في الحزب الجمهوري الأميركي للاتفاق، «في الحقيقة، الصفقة تحقّق تماماً ما كان مقصوداً منها: منع إيران من الحصول على كميات كافية من المواد الانشطارية الكافية لصنع سلاح نووي، والتبيان للجمهور الإيراني منافع التعاون مع المجتمع الدولي، وشراء مزيد من الوقت كافٍ لحدوث تغييرات محتملة بالوضع السياسي في إيران وسياساتها الخارجية».
وتابع الكاتبان: «الذين توقعوا أن تُحدث الصفقة تغيّراً فورياً في جدول أعمال إيران الإقليمي، أو زعموا أنه لو أصرّت أميركا وشريكاتها على تغيّر كهذا أثناء المفاوضات لحدث التغيّر، فإنهم يجهلون ما بمقدور العقوبات والضغوط الدبلوماسية فعله. ومن واقع انخراطنا العميق بالعملية التفاوضية، فإننا نعتقد أنه من الأهمية بمكان توضيح الغاية، والفوائد الطويلة الأمد، والحدود الحتمية لما يمكن للاتفاق تحقيقه».
إلى أن يخلص الكاتبان إلى القول: «ما أنجزته الصفقة، على الأقل خلال العَقد المقبل، هو إزالة أي تهديد واقعي قصير الأمد بتطوير إيران أسلحة نووية. على الولايات المتحدة استغلال هذا العَقد بحكمة: مواجهة التجاوزات الإيرانية ومعاقبتها، ودعم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة (الشرق الأوسط)، والتوضيح للجمهور الإيراني أن الغرب ليس عدواً له، والتحضير ليوم انتهاء مفعول التضييقات المفروضة في الصفقة. ومن ثم، إذا لم تثبت إيران بحلول 2030 أن برنامجها ذو غايات سلمية بحتة، وأنها مستعدة للعيش بسلام مع جيرانها، سيترتّب إذ ذاك على الولايات المتحدة وشريكاتها اتخاذ قرارات صعبة حول مستقبل هذا الأمر. ولكن بما أن ثمة فرصة بأنه سيكون لإيران قادة مختلفون وسياسات مختلفة - المرشد الأعلى سيكون على الأرجح قد غاب عن المشهد، وسيأتي جيل جديد إلى السلطة - لماذا علينا أخذ تلك القرارات الصعبة الآن؟ لقد اشترت الصفقة مع إيران وقتاً ثميناً، وسيكون من الغباء هدر هذا الوقت في غياب خطة أفضل».
نقطة مهمة ينبغي تذكرها لدى قراءة هذه الكلمات، هي هل كان وارداً في ذهنَي مالي وغوردن، المقرّبين جداً من أوباما ومن هيلاري كلينتون، احتمال خسارة الديمقراطيين معركة البيت الأبيض أمام دونالد ترمب؟ لقد كانت غالبية المعطيات تشير إلى العكس، وكان غوردن مرشحاً للعب دور في إدارة هيلاري لو فازت. ومن ثم، هل كان الديمقراطيون «يُرحِّلون» الأزمة خلال فترة حكم ديمقراطية تالية، لتوريط الجمهوريين باستحقاقاتها الصعبة لاحقاً؟
كما شهدنا في حينه خطّط «ليبراليو» الحزب الديمقراطي «الصفقة» - وفق تعبير غوردن ونيفيو - وقاتلوا من أجلها بعناد. و«الليبراليون» هؤلاء ينقسمون إلى فريقين؛ الأول، يضم «التقدميين الاعتذاريين» المُعجبين بشعارات طهران «الثورية» في وجه عالم عربي «عسكريتاري» أو «محافظ»... وعلى رأس هؤلاء أوباما نفسه. والثاني يضم «أصدقاء إسرائيل» الموثوقين الذين يؤمنون بأن أفضل ضمان لأمن إسرائيل يتمثّل بانشغال دول المنطقة عنها بحروبها الأهلية والدينية والمذهبية.
الظن خيراً بالحكم الإيراني كان في صميم تفكير سيد البيت الأبيض، إذ سبق له وصفه بأنه «ليس انتحارياً». ومصلحة إسرائيل، طبعاً، تظل جزءاً استراتيجياً في حسابات أي إدارة أميركية. في المقابل، مصير المنطقة العربية لم يحتل موقعاً عالياً في حسابات أوباما الذي تراجع عن معظم ما جاء في خطابه التاريخي في القاهرة عام 2009، وبلغ منتهاه بسقوط «الخطوط الحمراء» التي توهّم كثيرون وجودها لمنع نظام بشار الأسد من قتل شعبه بالغازات السامة وغيرها.
منذ تلك «الصفقة» مع إيران تغيّر الكثير في الشرق الأوسط. تغيّر الكثير في كل الشرق الأوسط... إلا في إيران التي شعرت أنها حصلت على «شيك على بياض» لتفعل ما تشاء..
صحيح، حرص وزير الخارجية السابق جون كيري، منذ البداية، على القول إن التفاوض على الاتفاق النووي كان مخصّصاً للاتفاق نفسه، ولا يتطرّق لمسائل أخرى. ولكن كان بين تلك «المسائل الأخرى» عمل الحرس الثوري على احتلال 4 عواصم عربية، وتدمير المدن في سوريا والعراق، وتهجير - أو فرض نزوح - عشرات الملايين من سكان البلدين جُلّهم من العرب السنّة!
ومن المسائل الأخرى أيضاً أن كل أزمات المنطقة اختزلت بـ«الحرب على داعش»... ذلك التنظيم الإرهابي الشَّبَحي المُصطنع، الذي أسهمت سياسات طهران وموسكو و«واشنطن - أوباما» خلال 3 سنوات دامية من الانتفاضة السورية في «فبركته» وتغذيته وتجميع عناصره وإعطائه «المبرّر» الطائفي لوجوده.
كان وجود «داعش» المسوّغ لنشوء «شرق أوسط جديد» كان مطلوباً لإسقاط الكثير مقابل ألا يخلق غير كيانات فاشلة، وأحقاد مذهبية، ووباء من الجهل والتجهيل، وتدمير منظّم للمؤسسات ومعالم الحضارة ومقوّمات الثقافة.
إن العَقد الذي منحه الاتفاق النووي لإيران دفعت ثمنه غالياً منطقة الشرق الأوسط بأسرها، بما فيها المواطن الإيراني العادي، الذي سلبه متعصبّوه وملاليه و«حرسه» شبكة أمانه وفرص العيش الكريم لأبنائه.