عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

استقلال المواطن اقتصادياً

حريق برج الإسكان الاجتماعي غرينفيل في لندن، منذ شهر، هذا الأسبوع يثير جدلاً على ثلاثة محاور؛ الأول مسؤولية البلديات المحلية عن أسباب الحريق ومعالجة الأزمة بعد وقوعه. ثانياً دور الحكومة القومية في تعديل اللوائح المتعلقة بسلامة المساكن والمواد المستخدمة في البناء.
والمحور الثالث، وهو ما يهمنا للمقارنة المشابهة بين مصر وبلدان أفريقيا والشرق الأوسط: ظاهرة تزايد الاعتماد على الدولة في إدارة أمور أساسية في حياة المواطنين كالإسكان والرعاية الاجتماعية.
الفارق بين المجتمعات المتقدمة، والأخرى النامية (الاسم المهذب الذي أسبغه المجتمع الدولي على الدول المتخلفة) هو استقلالية الفرد وحريته في الاختيار ورفضه تدخل المسؤولين في شؤونه في الأولى، بينما مواطن الثانية طفل يرى الدولة في مقام الأب.
سبب القول «بيت الإنجليزي قلعته» أي الحصن الذي يحتمي داخله مستقلاً كملك في مملكته، إن حلم البريطاني تاريخياً تملك مسكنه. الأغلبية يشترون بيوتهم بالتقسيط؛ ويرى أن الاعتماد على الدولة في دعم الأسرة يفتح باب «قلعته» لدخول المسؤولين إليها.
الشهر الماضي شهد معركة حامية الوطيس (يغذي وقودها صحافة يسارية الطابع، وتيارات آيديولوجية) ضد ما يدعون أنه مؤسسة الأغنياء وأصحاب النفوذ والامتيازات، تشنها جماعات سياسية تدعي أنها تمثل سكان البرج المحترق، ومعظمهم من المهاجرين، كثير منهم من شمال أفريقيا ومصر والسودان، ولاجئون من الحرب السورية، والعراق وأفغانستان.
تحولت قضية برج غرينفيل إلى ساحة «صراع طبقي» بالمفهوم الماركسي من القرن التاسع عشر.
السبب أن البلدية المحلية «البلدية الملكية لكينسنغتون وتشيلسي» وهي من أغلى مناطق لندن وأفخرها وتعتبر أغنى بلدية من حيث الدخل.. المنطقة التي يقع فيها البرج، كانت حتى أقل من 15 عاماً عندما أعيد رسم حدود البلديات، بلدية «اشتراكية» تتبع حزب العمال. وهي التي بنت البرج بمواصفات «الاشتراكية» وبمواد بناء طبقاً لمواصفات أمن وسلامة أصدرتها حكومة عمالية؛ ورغم ذلك تلوم هذه التيارات حكومة المحافظين، وبلدية المحافظين.
وللإنصاف فإن رد فعل البلدية في التعامل مع ضحايا الحريق في الساعات الأولى كان دون المستوى المطلوب، مما أدى لاستقالة رئيس البلدية (رئيس البلدية ومجلس إدارتها كله منتخب من السكان المحليين ولا علاقة للحكومة المركزية في لندن بها). وبلغت ضغوط الصحافة على المحافظين حد تدخل وزير المجتمعات والإدارة المحلية، ساجد جويد، وتحذيره بلدية كينسنغتون بوضعها تحت الإدارة المباشرة لوستمنستر إذا لم تحل مشكلات المشردين من البرج المحترق (مقيمون حالياً في فنادق تدفع البلدية أجرتها).
ومع تقديرنا الكامل لفداحة الكارثة وللحالة المزرية التي يعيشها الناجون من برج غرينفيل، فإن الملاحظ هنا أن مفهوم الاعتماد على الدولة لدى بعضهم، خاصة المهاجرين من مصر وبلدان مشابهة، أثار بعض الملاحظات.
الإسكان الاجتماعي أصلاً هو حل مؤقت تنامى بعد الحرب العالمية الثانية وتهدم كثير من المساكن بقنابل اللوفتوافا الألمانية. مساكن رخيصة الإيجار مدعومة من الحكومة المحلية بأموال دافعي الضرائب. وكان الأصل في هذا الحل أن يخلي المستأجر المسكن الاجتماعي لتركه لشخص آخر أكثر احتياجاً بعد أن تتحسن الأوضاع المالية للمستأجر الأول. أي يكون في وضع يمكنه من شراء منزله بالتقسيط أو يؤجر منزلاً آخر أكثر اتساعاً وبحديقة (مثلما يفضل البريطانيون تقليدياً) ويدفع الإيجار المعتاد مثل بقية الناس.
لكن ضاع الهدف الأصلي، وتحولت الوسيلة (للمساعدة على اجتياز أزمة مالية لفترة مؤقتة في حياة رب الأسرة) إلى غاية في حد ذاتها؛ وأصبحت هذه المساكن الاجتماعية تورث للأطفال والأحفاد، بل إن البعض يستغل مهاجرين آخرين ويؤجر المسكن الاجتماعي من الباطن (وبالطبع يفضِل مهاجرين غير شرعيين وغير مسجلين في الأوراق الرسمية، لأنهم لن يبلغوا عن استغلال المستأجر الأصلي لهم، وهذا بدوره يسبب مشكلة للمسؤولين في التعرف على العدد الحقيقي لضحايا الحريق).
مسألة الإسكان الاجتماعي وتوفير الخدمات (كإعانة البطالة، وإعانات اجتماعية أخرى) بشكل اعتمادي على الدولة أصبحت أيضاً سلاحاً سياسياً إيجابياً في يد التيار الاشتراكي الذي يمثل حزب العمال، وسلاحاً سلبياً في يد اليسار، والصحافة اليسارية لاستخدامها ضد المحافظين واتهامهم بالانحياز للأغنياء ضد الفقراء.
ففلسفة المحافظين هي مساعدة الفرد على الاستقلال والاستثمار وخلق الثروة، بعكس فلسفة العمال في تأميم وسائل الإنتاج والمرافق وتحويل صاحب الأعمال الحرة إلى موظف يعمل بالأجر.
حزب العمال، سواء في البلديات المحلية أو عندما يصل إلى الحكم (آخر مرة كانت 1997 - 2010) يتعمد توسيع دائرة المواطنين الذين يتزايد اعتمادهم على الدولة (ويزداد عدد المهاجرين الوافدين دائماً في عهود الحكومات العمالية، ويمثلون نسبة كبيرة من المستفيدين من الخدمات والإسكان الاجتماعي). وكلما اتسعت دائرة المنتفعين ضمن العمال زيادة الأصوات لها، لأنهم بالطبع يصوتون لحكومة اشتراكية طمعاً في زيادة حجم الدعم الاجتماعي الذي يتلقونه في المستقبل.
الملاحظ تنامي عدد من يعيشون في مساكن يشترونها بالتقسيط إلى أكثر من 200% في عهد حكومات المحافظين، بينما يتنامى عدد المستأجرين إلى أكثر من الضعف في عهود الحكومات العمالية.
وتنامى عدد المستأجرين المتلقين الإعانة الاجتماعية من دون 18% في ثمانينات القرن الماضي إلى 28% في عهد الحكومة العمالية الأخيرة.
الدرس هنا لمنطقة قرائنا، خاصة في مصر، إن فلسفة اعتماد المواطن على الدولة، والتي ينصح خبراء الاقتصاد بالتخلي عنها والعودة إلى فلسفة النمو الرأسمالي هي العلاج الأسرع لأزمات كالبطالة، والركود الاقتصادي. أي الأخذ بيد المواطنين للاستثمار في المنشآت الاقتصادية الفردية، واعتماد القروض البسيطة، التي تضمنها البنوك المركزية، سواء كان الاستثمار في مجال الإسكان، بتوفير وحدات سكنية يبنيها القطاع الخاص، أو في الخدمات، أو حتى في خلق الصناعات المحلية، مثل خطة النمو الاقتصادي التي اعتمدها بنك مصر بقيادة طلعت حرب باشا مثلاً في عشرينات القرن الماضي من دعم المستثمر الصغير فكانت النهضة الاقتصادية التي بلغت أوجها عقب الحرب العالمية الثانية. فعشية 23 يوليو (تموز) 1952، كان الاقتصاد المصري هو الأسرع نمواً في حوض المتوسط، والجنيه المصري قيمته أربعة دولارات وبريطانيا مدينة لمصر بما يساوي اليوم 633 مليون دولار، بينما أدت سياسة 1960 بتأميم وسائل الإنتاج التي تأسست بنهضة طلعت حرب باشا، اعتماد أكثر من 80 في المائة من المصريين على الدولة المركزية في الإسكان والخدمات والوظائف، ودعم الوقود والسلع الأساسية. والنتيجة؟
الحالة الاقتصادية في بلد كمصر معروفة للجميع.