محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

بين ما نعرف وما علينا معرفته

الاقتصادي الراحل جون كينَز (أثرت نظرياته الاقتصادية النظم الغربية قبل وبعد الحرب العالمية الأولى) ذكر في أحد لقاءاته بزملاء من جامعة كامبردج أن المشكلة في نظريات ومفاهيم بعض الفلاسفة الجدد هي أنها تخلو من «عناصر الطبيعة الإنسانية». وكان المقصود، كما يرد في المراجع المتخصصة، الفيلسوف برتراند راسل ونظيره جورج إدوارد مور. أضاف كينَز: «بيرتي» (يقصد برتراند) «تحديداً تبنى رأياً غير منطقي مفاده أن العلاقات الإنسانية تُبنى بعد ممارسات غير منطقية يقوم بها البشر».
في رأي كينَز، كما ورد في كتابه «مفكرتان»، الصادر سنة 1946 والذي التقطته بالصدفة في إحدى مكتبات شارع شارينغ كروس رود العتيقة في لندن، أن راسل لم يكن يثق بالإنسان وأن هناك خصالاً حميدة كثيرة في البشر تغاضي عنها راسل، معتبراً أن الأفعال البشرية الشريرة لا يوجد ما يبررها، كون الإنسان قليلاً ما تعب على نفسه ليتحاشاها.
فهل الحق مع كينَز الذي وثق بالإنسان كما هو أو مع راسل الذي وجد أن الإنسان، في العموم، غير أهل بالثقة؟
العلم النفسي الحديث يرجح أن برتراند راسل كان على حق. دراسات جديدة في نظرية «المعرفية غير المتجانسة» Cognitive Dissonance Theory تم وضعها بعد إحصاءات واستطلاعات تقول إننا نفضل صد الحقائق إذا ما كانت تتناقض وقناعاتنا الخاصة.
هذا شيء خطير بالفعل يفسر كيف أننا نرتكب الخطأ واحداً بعد الآخر، بل نرتكب الخطأ ذاته مرتين أو أكثر أحياناً. لكن المسألة ليست عددية أو تتبع الكم. بعض القرارات الخاطئة كانت نتيجة امتحان عسير واحد وضعنا أمام اختيارين: أن نفعل ما اعتدنا عليه وثبت خطأه أو نفعل جديداً لم نختبره بعد، لكنه يبدو منطقياً؟ هل نزيد مما نعرف أو نفتح عقولنا على هو مختلف عما تعودنا عليه؟ هل نمارس حياتنا كما عرفناها، معتبرين أننا على صواب دائم لمجرد أننا وُلدنا هكذا وتعودنا على ما نحن عليه، أم نمتلك شجاعة المواجهة مع النفس، ونزين الأمور بضوء مختلف قد يلغي بعض قناعاتنا؟
كل هذه الأسئلة تنبع، كما قرأت واقتنعت، من نقطة انطلاق واحدة: ممارسة ما نحن عليه أو ممارسة ما هو صحيح إذا ما كان ما نحن عليه خطأ. قال لي صديق: «كنت أتحدث مع شقيقي وذكرت له أن عليه أن يحذر من خطر ألعاب الديجيتال والفيديو التي يغدق بها على ولديه. سألني السبب، فقلت له إنها تؤثر على سلوكيات الطفل وتصرفه عن التواصل مع الآخرين». أضاف الصديق: «ضحك شقيقي مني وقال: من قال لك ذلك؟ سعادتهما كنز الدنيا عندي وتريدني أن أمنعهما عن ذلك؟».
هذا مثال على هذا النمط من التفكير. صديقي معه حق، وشقيقه لا يود الاعتراف بذلك لأنه اختار ما يرتاح إليه، وهو قناعة متولدة من ظروف قائمة وليس من حقائق فعلية.
هذا النوع من الارتياح إلى ما نعرف يجعلنا نعتقد أننا دوماً على صواب، هو السائد، بينما الإقدام على معاينة حيادية لما نحن عليه وما يجب أن نكون عليه هو فعل لا يقدم عليه إلا القلّة كونه يتطلب شجاعة المواجهة مع النفس. طبعاً لا يمكن أن تكون كل قناعاتنا خاطئة، لكن الكثير منها يحتاج إلى تقييم وتقويم.