إيفان كراستيف
كاتب في «نيويورك تايمز»
TT

خيار وسط أوروبا الصعب

في نهاية عام 2016، سقط الكثير من الأوروبيين في حالة من اليأس العميق، إثر صدمتهم المدمرة من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وحالة عدم الاستقرار التي ولدتها الانتخابات الرئاسية الأميركية. ولقد نزعوا إلى فكرة مفادها أن لحظة الاتحاد الأوروبي في التاريخ قد ولت. وبعد ستة شهور كاملة، ليس هناك شيء مختلف، ولكن كل شيء قد تغير على نحو مفاجئ.
كشفت استطلاعات الرأي أن عددا متزايدا من المواطنين الأوروبيين يراهنون الآن على الاتحاد الأوروبي. والاقتصادات المحسّنة عبر أرجاء القارة، والأداء المزري للحركات القومية الشعبوية في هولندا، وحالة الإذلال التي عانت منها تيريزا ماي – المؤيدة القوية للخروج البريطاني – في الانتخابات العامة الأخيرة في بريطانيا، قد جعلت الكثير من الأوروبيين يأملون في حصول الاتحاد الأوروبي على فرصة جديدة، وأنه سوف يستغل هذه الفرصة أحسن استغلال.
إن الانتصارات التي حققها إيمانويل ماكرون في الانتخابات الفرنسية – أولا في مضمار الانتخابات الرئاسية في مايو (أيار) الماضي، ومرة أخرى في الانتخابات البرلمانية مؤخراً – على منصة سياسية شديدة التأييد للاتحاد الأوروبي قد أدت بالمواطنين الأوروبيين إلى الاعتقاد بإمكانية المزيد من الاندماج بدلا من التوحد والتفكك. والأمل الأكثر قوة بين جموع الموالين للاتحاد الأوروبي ينعقد على الإصلاحات العمالية التي سوف يجريها ماكرون في فرنسا والتي سوف تقنع ألمانيا بالاستثمار بقوة في اقتصادات منطقة اليورو. وفي الأثناء ذاتها، تجري صياغة الخطط للمزيد من الاستثمار في الدفاع الأوروبي المشترك على قدم وساق.
ولكن في حين أن حالة التفاؤل المعدية صارت مشاهدة في كل مكان من أوروبا الغربية، إلا أن الجانب الشرقي من القارة العتيقة لا يزال يفتقد إلى الروح الحماسية نفسها بصورة كبيرة. إذ تتهدده احتمالات خروج الأوروبيين الشرقيين من عضوية الاتحاد – على نحو ما دعا الرئيس التشيكي فاكلاف كلاوس مؤخرا – كمثل احتمالات أن يخسر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الانتخابات العامة في بلاده خلال العام المقبل. غير أن مشاعر القلق الحقيقية في أوروبا الشرقية موجهة حيال الجهود الألمانية والفرنسية لإعادة ترتيب البيت الأوروبي، ولكن لماذا؟
والإجابة في منتهى الوضوح. تخشى الحكومات في بولندا وهنغاريا من أن يؤدي المزيد من الاندماج السياسي الأوروبي إلى تعريض الأنظمة الحاكمة غير الليبرالية إلى خطر كبير، في حين أن الكثيرين في أوروبا الشرقية يخشون من أن تؤدي أي مبادرات مستقبلية بين ماكرون وميركل إلى انقسام أوروبا بين معسكرين كبيرين تحمل فيه أوروبا الشرقية مسمى «مواطني الدرجة الثانية».
أغلب بلدان أوروبا الوسطى خارج منطقة اليورو – وبلغاريا ورومانيا غير منضمتين حتى الآن إلى اتفاقية الشينغن للحرية الحركة – والكثير من دول المنطقة كانت قد أقامت اقتصادها الوطني على أسس المنافسة وفق الأجور المنخفضة والضرائب المتدنية. ومن ثم تنتشر مشاعر الخشية بين مختلف الساسة في أواسط أوروبا، وبين بعض المستثمرين في أوروبا الغربية كذلك، من أن السياسات التي دعا إليها السيد ماكرون خلال حملته الانتخابية الرئاسية، مثل تنسيق النظم الضريبية عبر دول الاتحاد ومعاقبة البلدان على تصدير العمالة الرخيصة، من شأنها أن تسفر عن تدمير نموذج الأعمال في أوروبا الوسطى بالكامل.
ولكن في حين أن غالبية الشريحة النخبوية من ساسة أوروبا الشرقية تشكك في جدوى سياسات ماكرون، يجادل البعض بأن سياسة الأجور المنخفضة هي السبب الرئيسي في التدفق الكبير في أعداد الناس خارج منطقتهم. وفي بعض البلدان، هناك أكثر من 10 في المائة من السكان قد غادروا الوطن للعمل في الخارج. ويقدر صندوق النقد الدولي أنه إذا استمر معدل التدفق إلى الخارج وفق المستويات الحالية، فسوف تفقد بلدان أواسط، وشرقي، وجنوب شرقي أوروبا ما يصل إلى 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع بين عام 2015 وحتى عام 2030.
ولكن في حين أن استراتيجية ميركل - ماكرون تمثل تحدياً قائماً لاقتصاد أوروبا الوسطى، فإن حقيقة أوروبا «متعددة الطبقات» لا تزال تشكل خطراً استراتيجياً معتبراً.
بعض الأمور قد ألجمت بلدان أوروبا الشرقية بلجام القلق والتوتر إزاء احتمال وقوعها في براثن «مواطني الدرجة الثانية» مثالا بالفضيحة المدوية الأخيرة حول اعتماد سياسة «المعايير المزدوجة» فيما يتعلق بالغذاء. فلقد اكتشف المستهلكون في أوروبا الشرقية أن بعض المنتجات، مثل شوكولاته «نوتيلا» على سبيل المثال، يختلف مذاقها تماما في النمسا عنه في هنغاريا. ولكن لماذا؟ كشفت الاختبارات التي أجريت أن العلامات التجارية متعددة الجنسيات تستخدم في بعض الأحيان مكونات رخيصة الثمن في الأغذية التي تباع على الجانب الشرقي من الستار الحديدية السابق في أوروبا. وتزعم الشركات أنها تغير من مكونات المنتجات لتتناسب مع الأذواق المحلية، ولكن وزير الزراعة التشيكي تحدث بلسان الكثيرين عندما قال إن الشرق الأوروبي سئم من كونه «سلة مهملات أوروبا الغربية».
وتؤذن مقاومة أوروبا الوسطى لمحور برلين - باريس الجديد بالدخول إلى مرحلة مغايرة تماما من التعامل على المستوى الأوروبي. فهذه البلدان تواجه في الوقت الراهن خيار قبول الاندماج الكامل على الأسس الألمانية الفرنسية أو مواجهة التهميش السياسي على مستوى القارة — ناهيكم عن مخاوف أوروبا «متعددة الطبقات» والتي قد تتحول بمرور الوقت إلى نبوءات ذاتية التحقق.
ومما يؤسف له، أن التحول اللاليبرالي في هنغاريا وبولندا — والذي اتسم بمحاولات السيطرة على المحاكم، وترويض وسائل الإعلام المستقلة، والتدخل في شؤون المجتمع المدني (ناهيكم عن ذكر الخطاب السياسي القومي الشعبوي) — قد أجبر الكثير من بلدان أوروبا الغربية إلى إغلاق آذانهم عن الاستماع إلى ما قد يكون في بعض الحالات من المظالم المشروعة في أوروبا الوسطى.
وتعتبر أزمة اللاجئين من أبرز الأمثلة على ذلك. بالنسبة لأوروبا الغربية، فإن الرفض الهنغاري والبولندي والتشيكي لقبول إعادة توطين حصص اللاجئين الموزعة والمعتمدة من قبل بروكسل في عام 2015 يظهر أن بلدان أوروبا الشرقية تفتقر فعلا إلى التضامن اللازم في الاتحاد الأوروبي. أما في أوروبا الشرقية، من ناحية أخرى، فإنهم يصرون على ضرورة أن التضامن يجب ألا يضر بالتفويض الديمقراطي، ومسألة الانتماء المجتمعي من المسائل الوجودية التي تتقرر وفق مصالح الحكومات المنتخبة ديمقراطيا فقط. وتكمن المشكلة في أن الخطاب الهنغاري الهستيري المناوئ للمهاجرين قد سهل الأمر كثيرا على البلدان الأوروبية الأخرى في رفض المخاوف المشروعة في أوروبا الوسطى ووصمها بأنها من قبيل النزعة القومية الشعبوية غير المقبولة.
ولكن إذا واجهت بلدان أوروبا الوسطى نفس التحديات، فلن تواجهها معا. وحلم أوروبا الوسطى الموحدة، والذي تجسد في تشكيل مجموعة فيسغراد أوائل التسعينات من القرن الماضي، لم يعد له وجود. واثنان من أعضاء هذه المجموعة، جمهورية التشيك وسلوفاكيا، تحاولان في الوقت الراهن النأي بالنفس عن العضوين الآخرين، هنغاريا وبولندا، الأمر الذي يلحق المزيد من الضرر بالاتحاد الأوروبي ولا يدعمه. وفي الأثناء ذاتها، وبرغم أن بولندا وهنغاريا تتقاسمان كراهية عميقة تجاه بروكسل، إلا أنهما منقسمتان على نفسيهما عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع روسيا.
ومن المتوقع لحكومات المنطقة التي تواجه مبادرة ميركل - ماكرون لإعادة ترتيب البيت الأوروبي أن تضطر في وقت قريب إلى الاختيار ما بين مستقبل الاندماج العميق مع أوروبا الغربية، أو مستقبل تتزايد فيه أمارات تهميش أوروبا الوسطى على نحو كبير. إنه الخيار بين إيمانويل ماكرون وفيكتور أوروبان، رئيس الوزراء الهنغاري المتشدد. ولم تحسم هيئة المحلفين أمرها بعد بشأن أي الحكومات سوف تختار. ولكن يمكن إيجاز تجربة أوروبا الوسطى للقرن العشرين في القول المأثور: «إن لم تكن على المائدة، فلا بد أنك على القائمة»!
* خدمة: «نيويورك تايمز»