الحوارات اليومية للمفكر السوري د. محمد شحرور على قناة روتانا، هي في ظني أفضل عمل ثقافي قدمه الإعلام العربي خلال هذا الشهر المبارك. تعرفت على شحرور للمرة الأولى في مطلع تسعينات القرن الماضي، من خلال عمله المثير للجدل «الكتاب والقرآن». وللحق فإن تحليله الفريد للنص القرآني قد صدمني وسفه كثيراً من قناعاتي المستقرة. لكنه علمني أن فهم النص مشروط بالعبور منه إلى ما وراءه. هذا «الوراء» قد يكون تخيلاً للاحتمالات الممكنة في النص، أو ربما قائمة معايير أولية بسيطة ترجع إليها كل الأخلاقيات والمثل، أو إطاراً عاماً يجمع ما تظنه الخيوط التي تربط بين حياة البشر المادية وحياة الإنسان المعنوية.
وجدت ثلاثة مفاهيم تشكل ما أظنه إطاراً عاماً يجمع كل آراء محمد شحرور، هي الدنيوية، والمعنوية، والعقلانية. من حيث المبدأ تصور شحرور الإسلام وكتابه المقدس منهجاً لتنظيم حياة البشر في الدنيا. ما يتعلق بالغيب والآخرة مجرد تكملة للقواعد التي تنظم الحياة الدنيوية. ثم إنه تصور الحياة الدنيا العاقلة كنموذج أولي لتطبيقات القيم الدينية. والحق أن القرآن لا يدعونا لغير القيم العليا وقواعد العيش الكريم، التي توصل إليها عقلاء البشر في كل زمان ومكان. قد تختلف تطبيقات تلك القيم ومقاصدها الفورية بين ظرف وآخر أو بين مكان وآخر، بحسب موقعها في التشكيل العام للظرف الاجتماعي - الاقتصادي الراهن. لكنها في نهاية المطاف ليست أدوات تبرير لذلك الظرف ولا السلوكيات أو المفاهيم المتولدة عنه. بل هي على العكس من ذلك، نماذج مرجعية لنقد السلوكيات والأفعال والمفاهيم السائدة، وتأكيد على تجاوز التطبيقات الظرفية إلى النموذج الأعلى.
المعنوية هي النقطة التي تلتقي عندها كل الأديان والدعوات الروحية. لكن ماذا تغني روحانيات الدين إن لم تملأ القلوب بالمحبة لسائر خلق الله؟ إن ما جرى من إفراط في استعمال الشعار الديني في الصراعات الاجتماعية والسياسية، قد حجم روحانيات الدين، وحولها من عالم مستقل موازن للميول المادية، إلى أداة للأغراض المادية، من خيوط وصل تربط بني آدم إلى تبريرات للعدوان عليهم.
في هذه الأيام أرى نوعاً من إعادة الاعتبار لمعنويات الدين. أي تلك المفاهيم القائلة إن عباد الله جميعاً يمكن أن يلتقوا على شاطئ واحد، هو عمل الخير، حتى لو سلكوا سبلاً شتى أو اختاروا مذاهب وأدياناً مختلفة. ويلفت انتباهي خاصة الآراء الجديدة التي يطلقها دعاة ومفكرون، وفحواها أن قصد الخير بشكل عام، كافٍ لنيل رضا الله.
جوهر معنوية الدين هي الإيمان بأن رسالة الله واحدة، تختلف أشكالها وإطارات عملها بحسب اختلاف أزمنة الناس، وأن رحمة الله تتسع لجميع خلقه، المذنبين والمحسنين. ونقطة الالتقاء بين العقلانية والمعنوية هي الإيمان بدور الضمير الإنساني كنقطة اتصال بين الإنسان وربه، ودور العقل كمولد لمعاني الأفعال. مهما كان اتجاه الإنسان وقناعاته، فإن عقله قادر على كشف محتوى الفعل، أي التمييز بين الصلاح والفساد فيه، حتى لو كان جاهلاً بتعاليم الدين.
قد تكون ممن يتوسع في إقامة شعائر الدين أو ممن يقتصد فيها. ما هو مهم في كل الأحوال هو قصد الخير لنفسك ولعامة الخلق ممن تعرفهم أو لا تعرفهم. هذا هو الإيمان بالله.
8:2 دقيقه
TT
المعنوية حيث تلتقي جميع الرسالات
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة