خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

«نحن» الصيغة المحببة للنفوس

من الملاحظ أن كثيراً من الزعماء ورؤساء الدول يميلون إلى استعمال صيغة الجمع عن أنفسهم فيقولون «نحن» قررنا كذا وكذا. في حين أن القرار كان فردياً وصادراً منه على وجه الحصر. اشتهرت مرغريت ثاتشر باستعمال هذه الصيغة التي بدت نابية للكثيرين بسبب أنوثتها. بيد أنها فطنت لذلك فأمعنت باستعمال صيغة الجمع.
بيد أن هذه الصيغة، صيغة الجمع، تتطلب بعض الحذر. فلربما تفطن امرأة فتتكلم بصيغة نحن وتمضي فتقول: هذا الفستان، أو الخاتم، اشتروه لي أزواجي! وهذا هو المطب الذي وقعت فيه إحدى السيدات عندما نصحت خادمتها بالتظاهر والكثرة. قالت لها: إذا طلبت منك مثلاً أن تأتيني بقدح ماء، فقولي بأي قدح؟ الذهبي أو الفضي أو المرجان؟ وإذا سألتك عن مسبحتي فقولي أي واحدة، الكهرب أو اللؤلؤ أو اللازورد، وهكذا. وعندما حضر بعض ضيوفها في اليوم التالي طلبت منها أن تستدعي زوجها فأجابتها الخادمة، أي زوج منهم؟ الأشقر أو الأسمر أو التركي أو الكردي...؟
وربما يحاول أستاذ في الجامعة أن يتملق للسلطة بالحديث عن منجزات البلاد وانتصاراتها، ويقول إنها حصلت بفضل عبقريات زعمائنا، بدلاً من أن يقول إنها من عبقريات زعيمنا الأوحد. فتودي به المحاولة البريئة إلى السجن بدلا من عمادة الجامعة. فالجمع يوحي بوجود تعددية وهو شيء يعتبر من المبادئ الهدامة.
وهكذا يتعين الحذر في استعمال صيغة الجمع. وكقاعدة ينبغي تحاشيها كلياً عند ذكر الثورة والانتفاضة والزعامة والنضال والحزب. هذه كلمات تزداد بهاء وروعة بصيغة المفرد. والواقع أن هذا شيء حصل للمارشال مونتغومري. فبينما عمدت مرغريت ثاتشر إلى تعظيم نفسها باستعمال صيغة الجمع، دأب مونتغومري إلى تفخيم نفسه باستعمال صيغة المفرد. وسأله الصحافيون حول الإنزال في نورمندي فقال: «نعم قررت أنا يوم الإنزال في نورمندي، واستطعت أن أضلل المارشال رومل. وبعد نورمندي زحفت على باريس، وهلمجرا. وهذه صيغة توحي للسامع بأن كل الألوف من الشباب الذين قتلوا في الحرب ماتوا قضاء وقدرا، ولا علاقة لهم بالنصر».
يتطلب كل ذلك براعة من المتحدث المتطلع إلى العظمة والفخامة. وهو هوس المثقف العربي. كثيراً ما تؤدي صيغة الجمع إلى التصغير من شأن المتحدث، بل وإلى التشكيك في صدقه وأمانته أيضا. ومن أحسن الأمثلة على ذلك القول الشائع بين الأساتذة والكتاب: «أن من رأينا... كذا وكذا». ماذا يقصد بذلك؟ تشير الصيغة إلى وجود عدد غفير من المفكرين يحملون الفكرة نفسها. هذا استعمال يشكك في مصداقية القائل. وإن من رأينا تحاشيه كلياً.
وكثيراً ما أدى استعمال صيغة الجمع من قبل الهواة القليلي الخبرة بصيغ التفخيم إلى مصائب حقيقية. ومنها ما حصل لبائع ثلج ذكر شيئاً عن وجود دود في الثلج المؤمم، ونصح الناس بغليه قبل استعماله. ما أن قال أثناء التحقيق معه: «والله هذه إشاعة سمعناها!» حتى ألقوا به في السجن. ممن سمعتها؟ ومن قال لك ذلك؟ وما هي المنظمة التي ينتمي إليها أعضاؤها؟ من يمولها؟ الخ...
لا عجب أن أجدادنا كانوا يؤنثون الجمع، ويقولون: «لا تبالي بجمعهم... كل جمع مؤنث».