أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

الحق عليه

في مطلع التسعينات من القرن الماضي، حينما كنت لا أزال طالبا بكلية الطب في جامعة القاهرة، ظهر مطرب شاب يغني لونا شعبيا مختلفا، يمزج بين مدرسة «عدوية» السابقة وموسيقى ذلك العصر، يدعى حكيم.. وانتشرت أغنياته كالنار في الهشيم.
كانت إحدى أغنياته تتحدث عن هجر المحبوب، وكان المغني يلقي بكل التهم على محبوبته: «هو اللي هجرني»، «هو اللي ظلمني»، «هو اللي خان.. ومالوش أمان»، «هو اللي غدر بي.. وجرحني في قلبي»... وهكذا، بينما تردد وراءه الجوقة (الكورال): «الحق عليه.. الحق عليه» في إيقاع سريع.
حكيم أراح نفسه في الأغنية من أي لوم.. بل وصم حبيبته بكل الذنوب الممكنة وغير الممكنة ليخلص نفسه ويريح ضميره سلبيا.
تحضرني الأغنية بشدة الآن حين أسمع مرارا وتكرارا لوما لا ينتهي لوزير الدفاع المصري الفريق عبد الفتاح السيسي، استباقا لنية - مفترضة - لديه لترشيح نفسه في انتخابات الرئاسة المقبلة. الرجل أعلن في وقت مبكر للغاية أنه لا يفكر في الأمر، ثم زاد الإلحاح من أطراف عدة، فترك الباب مواربا ولم يردّ بنفي أو تأكيد.
لا أتحدث هنا عن موقفي الشخصي - كناخب - من ترشح الرجل للرئاسة، فهذا محل توضيحه صندوق الانتخاب.. لكني أتحدث عن أولئك اللائمين عليه من المنافسين المحتملين أو أصحاب المصالح المتقاطعة مع ذلك.
يرى بعض المصريين أن الفريق السيسي اقترب من قلب الشارع بمواقفه القوية في وقت عصيب.. وهذا حقهم في ما يرونه، ويرون أيضا أنه الأجدر بالمنصب الأرفع في مستقبل مصر. جيدة هي تلك المقومات، لكن هناك من يعترضون.. وأكرر أنني أنظر إلى الأمر كباحث وليس كناخب أدلي برأي.
لكن من هم منافسو السيسي على الساحة حاليا، وماذا فعلوا؟ بكل أسف، مرشحو الرئاسة في عام 2012، أحدهم يحاكم حاليا، وهو الرئيس السابق محمد مرسي، والاثنا عشر الآخرون – وغيرهم ممن يحتمل ترشحهم للرئاسة - لم يظهر منهم أحد على الساحة منذ ذلك الوقت.. والمعني هنا بالظهور ليس الظهور الإعلامي أو تأسيس حزب لا دور له، لكن الظهور السياسي ولعب دور مجتمعي قيم كما نرى في دول العالم المتحضر والديمقراطيات العريقة.. بل إن أغلبهم ينتظر بدء فعاليات السباق الانتخابي لكي ينشط ويبدأ في الحملة الاعتيادية - من وجهة نظره طبعا - التي تشمل عقد مؤتمرات ووعودا وعهودا وما شابه، دونما أي تحرك حقيقي يفيد الشارع المصري.
الكل الآن يكتفي باللوم على السيسي دون أن يقدم شيئا حقيقيا يرفع من رصيده الشعبي. الكل يردد «الحق عليه»، دون أن يسعى لمنافسة فعليه.. لدرجة أن أبرز مصادر قوة السيسي الفعلية (إذا انتوى الترشح) صارت هي غياب المنافسين.
أتذكر جلسة جمعتني بعدد من الدبلوماسيين في القاهرة منذ سنوات، وكنت في ذلك الوقت ما زلت أعمل بالحقل الطبي ولم أحترف الصحافة.. كان ذلك في عام 2005 على ما أعتقد، وقد انتهت أول جولة انتخابات رئاسية تعددية – ولو اسما - في مصر. قال لي دبلوماسي شاب بعد نحو ساعة من تبادل حر للحديث وللأفكار، وبعد أن لاحظ انفتاحي الفكري التام على أي شيء: «أعيش في القاهرة منذ سنوات ولا أكاد أفهم كيف يفكر المصريون.. إذا كنتم لا تحبون (حسني) مبارك.. فكيف نجح في الانتخابات الأخيرة؟ لست ساذجا وأعلم بالطبع أن هناك تزويرا، ولكني أعرف أنها أول انتخابات تعددية، ولقد فاز بفارق رهيب عن الآخرين.. مهما كان التزوير فالحقيقة أن منافسيه لم ينافسونه أبدا.. لا أفهم».
استمعت للشاب وأجبت ببطء مشوب بقليل من الشرود: «ولن تفهم أبدا».. ثم استدركت بسرعة، وقد لاحظت احتقان وجهه وبسمة مكتومة تلاعب شفاه الجلوس من الإهانة غير المقصودة: «أعني أنني عشت في هذا البلد نحو 35 عاما (آنذاك) ولم أفهم أيضا.. دائما نلوم الآخر ولا نلوم أنفسنا على التقصير الذي يصل إلى حد الإجرام».
كانت الجلسة بأحد الفنادق المطلة على صفحة النيل مباشرة، داعبتنا نسائم خريفية لطيفة، فبدأت أغني ضاحكا، وردد الحضور خلفي في سخرية مريرة: «الحق عليه.. الحق عليه».