أنا على يقين من أن القواعد المتبعة في صحيفة «تايمز» ستسمح لي أن أصرح مباشرة بأمنيتي، ففوز لوبان سيكون بمثابة الكارثة التي ستحل على أوروبا، وعلى العالم كله. غير أنني أعتقد أنه من حقي أن أطرح بعض الأسئلة عما يجري: أولاً، كيف وصلت الأمور لهذه النقطة؟ ثانياً، هل ستكون هزيمة لوبان بمثابة إنقاذ مؤقت لأزمة أوروبا الحالية؟
دعونا نعرض بعض المعلومات الأساسية، لكن من المهم ملاحظة أن هناك أوجه تشابه موجودة بالفعل بين السياسة الفرنسية والسياسة الأميركية، على الرغم من الفروق الكبيرة في الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية.
وبداية، فعلى الرغم من العدد الكبير للصحف الرديئة التي يديرها مفكرون لا يزالون مصرين على أن الدول التي تعيش في رفاهية تعاني من تأثيرات كارثية، فإن الاقتصاد الفرنسي يعتبر ناجحاً بدرجة كبيرة. صدق أو لا تصدق، فشريحة الفرنسيين في ذروة سن العمل، من سن 25 إلى 54 عاماً، يعملون في أعمال أكثر ربحية من نظرائهم في الولايات المتحدة، وإنتاجية الاثنين متساوية. صحيح أن المواطن الفرنسي ينتج أقل من الأميركي بمقدار الربع بصفة عامة، لكن السبب هو أن الفرنسيين يحصلون على إجازات أكثر، ويتقاعدون في سن أصغر، وهي أمور لا تمثل مشكلة.
ورغم أن فرنسا شهدت تراجعاً تدريجياً في خلق الوظائف، شأن غيرها من الدول، فإنها لم تمر مثلاً بـ«صدمة الصين» التي عصفت بالوظائف الصناعية في الولايات المتحدة في العقد الأول من عام 2000.
وفي ضوء هذا الاقتصاد الذي لا نستطيع وصفه بالعظيم، ولا بالمزعج، فإن فرنسا تقدم شبكة أمان اجتماعي أبعد من أن يدركها خيال التقدميين في الولايات المتحدة، حيث توفر فرنسا شبكة رعاية صحية عالية المستوى للجميع، وإجازة مدفوعة الأجر للوالدين لرعاية الأطفال بعد الولادة، وبرنامجاً سخياً لرعاية الأطفال قبل سن الحضانة، بالإضافة إلى كثير من المزايا الأخرى.
أخيراً وليس آخراً، ربما بسبب تلك الاختلافات في السياسات المقدمة في الدولتين، وربما لأسباب أخرى، لا تعاني فرنسا من مشكلات اجتماعية مثل تلك التي يعاني منها كثير من الأميركيين البيض. نعم، ففرنسا لديها كثير من المشكلات الاجتماعية، ومن منا ليس لديه مشكلات اجتماعية؟ لكن معدل ما يعرف بـ«الموت بدافع اليأس» يعد منخفضاً في فرنسا، ويشير هذا المصطلح إلى حالات الوفيات الناتجة عن تناول جرعات زائدة من المخدرات والكحوليات، وحالات الانتحار، حيث أظهر التقرير الذي أعدته أننا كيس وأنغوس ديتون ارتفاع معدلاته بين الطبقة العاملة من البيض في الولايات المتحدة.
باختصار، فرنسا ليست المدينة الفاضلة، لكن استناداً إلى أغلب المعايير، توفر فرنسا حياة كريمة لمواطنيها. إذن، لماذا يصوت الكثيرون في صالح من نستطيع أن نطلق عليها، في أحسن الأحوال، العنصرية المتطرفة؟
بكل تأكيد، هناك عدة أسباب، أهمها القلق الشديد من المهاجرين المسلمين، لكن يبدو من الواضح أن الأصوات المتجهة إلى لوبان سيكون جزء منها صوت المحتجين على المسؤولين المتعجرفين في الاتحاد الأوروبي، الذين يصعب الوصول إليهم، ولسوء الحظ، فإن هذه الملاحظة تنطوي على بعض الحقيقة.
فالكثيرون منا، ممن شاهدوا أسلوب تعامل المؤسسات الأوروبية مع أزمة الديون التي بدأت في اليونان، وانتشرت عبر كثير من دول أوروبا، صدموا لكم القسوة والعجرفة التي سادت حينها.
ورغم أن بروكسل وبرلين أخطأتا، مراراً وتكراراً، في إدارتهما للاقتصاد، ورغم أن نتائج إجراءات التقشف التي طبقاها كانت كارثية، حسبما حذر المنتقدين سلفاً، فقد أصرا على السير في الطريق نفسه، وكأن لسان حالهما يقول إن أي معاناة يمران بها ما هي إلا تكفير عن خطايا سابقة.
سياسياً، إدارة الاتحاد الأوروبي أفلتت من العقاب عن هذا السلوك لأن الدول الصغيرة من السهل التنمر عليها، لأنها تخشى الحرمان مما تحصل عليه من الاتحاد من تمويلات اليورو، ولذلك عليها دوماً الانصياع حتى للمطالب غير المنطقية، لكن النخبة في أوروبا سترتكب خطأ كبيراً لو أنها صدقت أن الاتحاد الأوروبي يمكنه التعامل بالمنطق نفسه مع اللاعبين الكبار.
في الحقيقة، هناك بالفعل تلميحات تشير إلى حدوث كارثة في المباحثات الجارية الآن بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا؛ كنت أتمنى لو أن بريطانيا لم تصوت للخروج من الاتحاد الأوروبي لكي لا تضعف من قوته، ولكي لا تجعل بريطانيا نفسها أفقر، لكن مسؤولي الاتحاد الأوروبي يتصرفون كالزوجة التي هجرها زوجها، وتصر على إلحاق أكبر ضرر ممكن به، والحصول على أكبر تعويض ممكن عن الطلاق. ولذلك فما يجرى ليس سوى جنون محض. فسواء وافقت أم لا، على أوروبا أن تتعايش مع بريطانيا في مرحلة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، فالتنمر على بريطانيا على غرار ما حدث مع اليونان في السابق لن ينجح مع دولة كبيرة وغنية وفخورة بنفسها مثل بريطانيا.
فهل يعني ذلك أن على الناخبين الأوروبيين السير وراء ما يمليه عليهم الكبار.
* خدمة «نيويورك تايمز»