مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

موت الأفكار الكبيرة؟

رغم أن الجميع يشهد أن عالمنا العربي في مفترق طرق ويواجه تحديات كبرى؛ ثقافية وحضارية ومن بعدهما اقتصادية وسياسية، فإن الأفكار الكبرى التي يمكن أن تصلح الأوضاع يبدو أنها غائبة، أو يمكن القول إن الأفكار الكبيرة قد ماتت تماماً. استعاض العرب عن الأفكار الحية بالمقالات القصيرة في الصحف السيارة، وكذلك التغريدات والكتابة على صفحات «فيسبوك»، أو شبه لهم.
وقبل الحديث عن موت الأفكار الكبرى التي أنتجها العرب في حقب مختلفة؛ آخرها كانت فكرة القومية العربية التي أرّخ لها بشكل سردي مدهش المرحوم ألبرت حوراني، المستشرق الإنجليزي من أصل لبناني في كتابه المشهور «الفكر العربي في العصر الليبرالي». تتبع حوراني الجذور الفكرية للقومية العربية بالتركيز على لبنان ومصر كبلدين أساسيين في تطوير هذا الفكر، ويعتبر الكتاب نوعاً من التأريخ الفكري، حيث تتبع حوراني حركة الأفكار عبر الزمان من العهد العثماني، مروراً بعصور الاستعمار والاستقلال حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي ذلك الكتاب عرض حوراني بإمتاع للأصول الثقافية للقومية العربية، الفكرة من المقال هنا ليست عرضاً لكتاب ألبرت حوراني الذي يعد من الكلاسيكيات الآن، بقدر ما هي طرح للقارئ عن موت الأفكار الكبيرة في الفترة التي نحياها الآن أو فترة ما بعد الاستعمار. وهنا أنا أفضل عبارة «ما بعد الاستعمار» على عبارة «ما بعد الاستقلال»، ذلك لأن أمر الاستقلال غامض في أحسن تقدير. النقطة التي أود إثارتها هي أن كل ما هو معروض تقريباً لا يرتقي إلى مستوى الأفكار الكبرى، بقدر ما هو عنقود من الأفكار التكتيكية الصغيرة التي تتلمس حلاً للمشكلات الآنية، شيء أقرب إلى عقلية السباك منها عن واضع الخطة الاستراتيجية لخطوط المياه وبدائلها في عاصمة كبرى. ولكن المشكلة الحقيقية ليست في موت الأفكار الكبرى بقدر ما هي مشكلة مستهلكي الأفكار الصغيرة من نخبنا السياسية الحاكمة، الذين ينبهرون في الأغلب الأعم بالأفكار الصغيرة، ولكن متى ما صفقوا لها وتداولتها مجالسهم، شبه للعوام أنها أفكار كبرى أو لا تقل.
عندما نتحدث عن موت الأفكار، فنحن هنا نتحدث بصورة مجازية، وليس المطلوب الآن طرح أفكار جديدة للرد على دعوة هذا المقال، بقدر ما هي دعوة لقراءة متأنية في الأسباب التي أدت إلى حالة الاضمحلال والركود الفكري السائدة.
بداية، الأفكار اليوم ليست حكراً على منطقة جغرافية بعينها أو جنس معين من البشر، كأن تقول إن الأفكار ماتت في المنطقة العربية أو ماتت عند العرب، فهذا تبسيط فيه خلل كبير. لكنه يمكننا أن نتحدث عن حركة الأفكار وعن جغرافيا الأفكار في عالم تسود فيه وسائل التواصل والإعلام السريع. ومع ذلك، تبقى الأفكار النابعة عن المنطقة العربية خلال العشرين عاماً الماضية على الأقل، لا تستحق كثيراً من الاهتمام لما فيها أولاً من تكرار فج لأفكار عالمية مطروحة، أو لكونها مجرد شذرات أفكار لا تصمد أمام أي اختبار دقيق.
وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة خلقت محيطاً من أشباه الأفكار التي بدت للبعض كأنها أفكار خلاقة لمجرد تكرارها أو مشاركتها على برامج «واتساب» و«فيسبوك» و«تويتر». عندما يصبح الوهم حقيقة لمجرد تكراره أو أن تلوكه الألسنة في الفضاءات الإعلامية المختلفة، فتأكد أنك تعيش ضمن حضارة أصابها داء الانحطاط.
كما أن واحدة من مشكلات وسائل التواصل الاجتماعي اليوم أنها أصبحت منتديات مغلقة لمن يتشاركون فيها. أي أن الانفتاح ليس صفة وسائل الاتصال الجديدة، بل الانغلاق هو الأساس، إذ يتحدث كل منا مع من يشبهه في الأفكار، وليس من يتنافر معه، ومن هنا أقول بالانغلاق لا الإطلاق.
المنحى الثوري الذي حدث عام 2011، كان من الإمكان أن ينتج أفكاراً كبرى حول تنظيم المجتمعات وقيمها الجديدة، ولكنه وبدخول القوى التقليدية عليه أصبح منحى انتقام حتى جاءت الثورات المضادة بانتقامها أيضاً، وخير مثال على الثورة المضادة وقدرتها على التخريب، هو ما قام به نظام علي عبد الله صالح في اليمن. النقطة هي أن ما عرف بالثورات أو الربيع كانت ثورات حركة على الأرض، وتبنت شظايا الأفكار على حساب الأفكار الكبيرة. الثورة تحدث في الرأس أولاً. ثورة أفكار كبرى ملهمة كشعار الثورة الفرنسية الذي تلخص في المساواة والإخاء والحرية. وكان لكل هذه الأفكار من ينظرون لها من الفلاسفة. أما عندنا فكانت شعارات بلا أساس فلسفي. كانت ثورات في مجتمعات متخلفة.
أساس التخلف هذا كان نتيجة لغياب الأفكار الكبرى. المجتمعات التسلطية وبعقلية الزحام تجعل من أكثر الأمور تفاهة، كأنها أفكار كبرى، وهذا ما سماه الماركسيون تزييف الوعي أو الوعي الكاذب، الذي يصور للإنسان السراب كأنه الماء. عقلية الزحام تزور الأفكار وما حدث بعد عام 2011 كانت عقلية الزحام، ومع انتصار عقلية الزحام مات الأمل في تنظيم مجتمعاتنا حول منظومة قيمية جديدة تلهمها أفكار كبرى عن علاقة الإنسان بالزمان، وحتى يحدث هذا، فستبقى منطقتنا تخوض دوماً في مياه طينية وبحركة بطيئة نحو الحداثة والمستقبل. ولا يمكن لاستخدام التكنولوجيا كمظهر حداثي أن يخفي مخبراً متخلفاً. فأياً كان بريق التكنولوجيا الحديثة، فهي تحمل أفكاراً قديمة أو أشباه أفكار.
إن لم يتعرض مجتمعنا العربي إلى مشروع نقد حضاري وثقافي ذاتي، فإن موت الأفكار الكبرى قد يؤدي بالمجتمعات إلى السكتة الدماغية الكاملة والمجتمعات والثقافات مثلها مثل البشر تموت.