سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الطاعون أو الكوليرا؟

لم تعد العنصرية عاراً في بلاد «المساواة» و«الثورة الفرنسية»، ولا التخلي عن الاتحاد الأوروبي مستهجناً في الأرض التي حلم زعماؤها طويلاً بأوروبا قوية، آمنة، ومشعة على العالم أجمع. صار أقصى غاية الفرنسي العادي أن يجد عملاً ويؤمن طبابة، وتقاعدا يقيه غائلة الحاجة. لا تكف الصحف الفرنسية عن المقارنة بين الصدمة التي أصابت الفرنسيين بعد انتخابات الدورة الأولى عام 2002، لحظة اكتشف الناخبون أن زعيم «الجبهة الوطنية» يومها، جان ماري لوبان وصل إلى الدورة الثانية، والبرود الذي أبدوه هذه المرة، وهم يكتشفون أن ابنته مارين التي خلفته، وحملت ذات أفكاره الشعبوية المتطرفة هي التي تأهلت للدورة الثانية، مقابل مرشح الوسط إيمانويل ماكرون.
قبل 15 عاماً كان الخبر صاعقاً ومزلزلاً. استفاقت فرنسا في صباح اليوم التالي، مرتعبة وكأنما أصابها مسّ، ولبسها العار. كل شيء تغير الآن. استطاعت مارين لوبان أن تقدم عنصريتها وانطوائيتها، وتعصبها، بكلمات أكثر طراوة ودبلوماسية، دون أن يتغير الجوهر. كان الكلام عن المهاجرين العرب في شمال أفريقيا، صار عن العرب الآتين من الشرق. كانت الحجة توفير العمل وتحسين ظروف العيش، صارت الحجة خفض البطالة ومكافحة الإرهاب.
ما تغير في العمق هو فرنسا، هي أوروبا وأميركا، هو التغوّل المالي المجحف، الذي قضم جيوب الناس وأرواحهم. الفقر هو الذي صار ينتخب، الخوف يذهب مرتجفاً إلى صناديق الاقتراع، الغد الملبّد بالغموض والشؤم يفرض خياراته على البؤساء.
«انتخابات تاريخية» بالفعل. المشهد جديد بالكامل. مفارقاته تستدعي تأملاً في عالم ترتسم ملامحه الأولى دون أن يتبين وجهه بوضوح.
للمرة الأولى يخرج الحزبان التاريخيان «الجمهوري» و«الاشتراكي» من حلبة السباق الرئاسي للدورة الثانية، وتخلو الساحة لليمين المتطرف والوسط أو ما يسمى «إلى الأمام» الذي لا تزال توجهاته تحت الاختبار، أو ربما لن تكون، عملياً، غير استكمال لنهج تقليدي عقيم.
لم يحدث هذه المرة، كما 2002 أن انتفضت فرنسا وتظاهرت بالجملة درءاً للعنصرية، وطالبت بدعم ماكرون أياً كانت نواياه، لمنع لوبان من الوصول. على العكس، بدل الاستنفار، كثر المترددون، وتنامى عدد الراغبين في وضع الأوراق البيضاء في الصناديق، والمقبلين على الانتقام، كما المشجعين على المقاطعة، وأخذت الإحصاءات تظهر تقلص الفارق العددي بين الراغبين في لوبان والمقدمين على ماكرون.
حتى الخاسر، من أقصى اليسار، الحالم البريء ميلانشون الذي يفترض أن يأنف من فاشية لوبان، لم يقل قولاً حاسماً لدعم خصمها وشد أزره. يكاد هذا العمالي الطفولي الملامح أن يرى ما يجمعه بالمتطرفة لوبان أكثر مما يجعله يتعاطف مع ماكرون، إن في الخروج من الاتحاد الأوروبي أو في القرب من العمال والكادحين. تتلاقى المتناقضات في فرنسا حد الجنون.
ليس بين المرشحين المتبقيين من يقنع الفرنسيين بالخلاص، لم يكن بين المرشحين، في الأصل، من يملك مفاتيح الأبواب التي أوصدت على مر السنين. لن يذهب الناخب هذه المرة ليختار برنامج المرشح الذي يريد، بل ليمنع خصمه من الوصول. إذا كانت لوبان تمثل للبعض التعصب البشع والطلاق مع اليورو والانطواء على النفس، يبدو ماكرون للبعض الآخر بأنياب شرهة ومرشح «الأغنياء» وابن «أصحاب البنوك» الذي يرغب في جعل فرنسا «سوقاً» لا وطناً يحمي الضعفاء. علينا أن «نختار بين الطاعون والكوليرا» يردد الفرنسيون، وهم ربما على حق.
يهبّ مؤرخون للتصدي للمقارنة المجحفة - في رأيهم - بين فرنسا على شفير «الفاشية» عام 2017 وألمانيا متلبسة بـ«النازية» عام 1930، ومع ذلك الخطر قائم. أوروبا كلها تكاد تنزلق تدريجياً صوب ما كانت تخشاه، وتناضل ضده. ليست بلاد «حقوق الإنسان» سوى نموذج أولي عن سيناريوهات قد تتكرر في السنوات العشر المقبلة. لم تعد البرامج السياسية اللاهثة في مستوى التحديات. ثمة قصور في الفهم، وانحسار في القدرة على ابتكار الحلول، وجبن من الناس في قبول تغيرات جذرية، تقلب حياتهم رأساً على عقب، فيها المزيد من الانفتاح بدل الكثير من الانطواء.
الحاجة ملحة إلى عمليات جراحية موجعة. إيهام الشعوب الذاهبة إلى الانحدار أن خلاصها من دون ألم لا يزال ممكناً، هو كذب ومراوغة. تبسّط لوبان المعادلة، أكثر مما تحتمل، حين ترى أن حرب فرنسا هي مع «العولمة الشرسة» وإغلاق الحدود يحمل الأمن والازدهار. هل سيتمكن حقاً دونالد ترمب المثل الأعلى لمارين لوبان من سحب شركات أميركا الكبرى من شرق آسيا؟ هل بمقدوره رفع نسبة شعبيته بإجراءات داخلية حاسمة بدل الضربات العسكرية التي يسددها هنا وهناك، لإعادة الإحساس بالقوة إلى أرياف أميركا التي هجرتها مصانعها؟ هل سيتمكن من تجديد البنى التحتية الأميركية المهترئة، قبل نهاية ولايته؟
الأسئلة كثيرة والإجابات شحيحة. أوروبا تدخل مخاضاً عسيراً، وفرنسا تتقدم الركب. الأيام القليلة المقبلة حاسمة، والنتائج ليست محسومة على الإطلاق. لم تبالغ صحيفة «لوموند» حين كتبت بعد طول استجواب لمواطنين فرنسيين غاضبين وحائرين: «انتخب ضد لوبان اليوم، معناه أن (الجبهة الوطنية) ستفوز بعد خمس سنوات». فهل أصبح «التطرف» قدراً و«الفاشية» مستقبلاً لا بد منه؟