الجهود الطبية الرامية إلى تعديل النمط الغذائي لدى عموم المرضى وحثهم على التوجه إلى تناول الأطعمة الصحية، وعلى ضبط الانفلات في تناول الأطعمة غير الصحية، لا تزال تصطدم بجدار سميك جداً من الحقيقة الواقعية، وهي أن ثمة فارقاً لا يُمكن تجاهله في شأن لذة الطعم.
ورغم انتشار الأمراض المزمنة ذات الصلة بما يملأ المرء به «المعدة بيت الداء»، فإنه لا تزال تلك الجهود الطبية ونصائح التغذية تُؤتي ثماراً أقل كثيراً من المأمول، وذلك بسبب محاولتها التركيز فقط على مخاطبة العقل لدى الإنسان وعدم التوجه نحو مصدر المشكلة، ألا وهو حب تناول الأطعمة ذات الطعم الشهي بغض النظر عن قيمتها الغذائية. ولئن كان أهل صناعة الأغذية عبر التاريخ البشري الطويل، تنبهوا مبكراً جداً إلى دور «إحساس اللسان بالطعم»، وجعلوه حصانهم الرابح في صناعة وتسويق أصناف متنوعة من المنتجات الغذائية التي تُلاقي رواجاً واسعاً، فإن أهل الطب وعلوم التغذية والحمية ما زالوا بعيدين عن كيفية تعديل دور إحساس اللسان بالطعم للاستفادة منه في تحبيب الناس بالأكل الصحي.
وقديماً توجه أهل صناعة الغذاء نحو البهارات، ونحو طرق شتى في الشواء والطهي، ونحو طرق شتى في اختراع قائمة طويلة من أصناف الحلويات والمعجنات. وحديثاً تطور الأمر بإضافة المواد الكيميائية المتنوعة التي تُعطي طعماً لا يقوى المرء على عدم تكرار تناول أصناف المنتجات الغذائية الموجودة بها، وكذلك عبر طرق حديثة في الطهي والحفظ والتغليف والتقديم، مما يجعل الأطعمة تلك متوفرة للمرء سواء كان صغيراً وكبيراً كي يتناولها بسهولة، حتى في أكثر الظروف ضيقاً عن إمكانية تناول الطعام.
وفهم آلية التذوق هو الخطوة الأولى التي لا تزال علوم الطب ووظائف الأعضاء والكيمياء الحيوية تتلمس طريقاً فيها كي تكمل هذا الفهم الأساسي لحاسة التذوق وكيفية عملها. ولعل من الطريف جداً معرفة أن مستقبلات حاسة التذوق ليست منتشرة فقط على سطح اللسان، بل توجد مستقبلات الطعم المرBitter taste receptors في العضلات المغلفة للشعب الهوائية في الرئة. ووفق ما نشره الباحثون من كلية الطب بجامعة «ماريلاند» في بالتيمور حول هذا الموضوع عام 2010، فإن لها دوراً في توسيع تلك الشعب الهوائية حال الإصابة بنوبات الربو، وثمة مقترحات علمية للاستفادة من ذلك علاجياً. وهناك كثير من الدراسات العلمية التي وجدت مستقبلات طعم الفلفل الحار في أجزاء من المفاصل بالجسم، وهي وغيرها تدل على أن ثمة شيئا مجهولاً، لا نعلم حجمه على وجه الدقة، عن وجود مستقبلات عصبية للإحساس بالطعم والتذوق في أجزاء مختلفة من الجسم.
كما أن الباحثين من جامعة «ديوك» كانوا قد طرحوا إيجاد حمية للتدخين، ضمن أحد بحوثهم المنشورة في مجلة «أبحاث النيكوتين والتبغ» العلمية، عبر تناول أنواع معينة من الأطعمة التي تُغير الإحساس بطعم الدخان في الفم، وبالتالي تقليل استمتاع المُدخن بالتدخين. وقال آنذاك الدكتور جوزيف ماك كليرنون، طبيب الأمراض النفسية وعلوم السلوكيات بالمركز الطبي في جامعة ديوك بدورهام في ولاية كارولينا الشمالية، إن التدخين ليس مقتصراً على جانب الإدمان على النيكوتين، بل هناك جانب آخر هو التذوق والإحساس بنوعية الطعم لأنواع السجائر التي يتم تدخينها. ولو وجدنا أي شيء يُمكنه الإخلال بالطعم أو تغيير ذلك الإحساس المعتاد للتدخين في الفم، فإنه يغدو من السهل واليسير أن يُقلع المرء عن الاستمرار في التدخين. وتحديداً تبين للباحثين آنذاك أن الفواكه والخضراوات ومشتقات الألبان والمشروبات الخالية من الكافيين، سواء من الماء أو عصير الفواكه، كلها كانت من بين الأطعمة التي في الغالب تتسبب في تغير طعم التدخين نحو الأسوأ، مقارنة بما لو تم التدخين كما هو معتاد عند عدم تناول أي منها.
والحقيقة أن البحث في التذوق ليس ترفاً في البحث العلمي، بل ثمة قناعة لدى كثير من الأطباء أن فيه ربما وسيلة علاجية لكثير من المشكلات الصحية المرتبطة بالغذاء، مثل حالات السمنة، واضطرابات الكولسترول، وأمراض شرايين القلب، ومرض السكري، وغيرها مما يواجه المرضى بها صعوبات جمّة في اتباع وسائل العلاج المعتمدة على سلوك نمط الحياة الصحية مثل الحمية الغذائية وغيرها. ويرى كثير من الأطباء أن جانب طعم الأكل والشراب وتأثيراته الصحية يحتاج إلى حلول عملية لجعله من الوسائل العلاجية الواعدة لمساعدة مريض السكري مثلاً على التقليل من تناول السكريات إذا ما جعلوا لسانه لا يتقبلها، وكذلك الحال مع الدهون، وحتى ربما مع الكحول أو التبغ.
إن قدرة الإنسان الطبيعي على الاستمتاع بطعم المأكولات أو المشروبات، لا مجرد الإحساس بتذوقها، يتطلب إثارة كثير من أطراف الخلايا العصبية في فمه وأنفه، هذا ما نعلمه حتى اليوم. ووفق ما توصلت إليه الدراسات التشريحية والفسيولوجية، فإن بإمكان الفم أن يميز في التذوق بين 5 أنواع أساسية من المواد المُختلفة، وهي: المالحة والحلوة والحامضة والمرّة، وهناك نوع خامس يُطلق عليه باللغة اليابانية «يم مي»؛ وهو ما يعني بالترجمة إلى العربية «الطعم اللذيذ»، وهو ما يحدث عند تناول طعام أو شراب يحتوي على ما يُشبه المرق أو الصلصة كما في طعم اللحم الطري المشوي نتيجة الإحساس والإثارة بمادة كيميائية بروتينية تدعى «غلوتاميت أحادي الصوديوم». والطعم بالأصل يشمل الإحساس بالتذوق والإحساس بالنكهة التي تُشارك فيها أجزاء من الأنف ويُحددها إحساسنا بعدد من الأمور المرتبطة بالرائحة والكتلة في الفم، ودرجة حدة الطعم وغيرها من خصائص الطعام أو الشراب. وهذه مجالات واسعة للتطبيقات العملية الطبية التي يُمكن أن تُسهم في حدوث «تعديل للتذوق».
واليوم تُوجد هيئات علمية وشركات بحث علمي متخصصة بتكنولوجيا تعديل الطعمTaste Modification Technology، ومنْ يُجري عملية بسيطة للبحث في موقع «غوغل» فسيجد كثيراً منها.
8:7 دقيقه
TT
حلول هندسية لتعديل حاسة التذوق
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة