وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

المجلس المنسي في لبنان

مظلوم لبنان.
ظلموه يوم اعتبروا مستقبله مرتهناً بقانون انتخاب «عصري وجديد» لبرلمانه... وأمعنوا في ظلمه يوم اعتبروا اقتراح الاقتراع النسبي هو «العطار» المرشح لإصلاح ما أفسده الدهر - والدهريون من ساسته المتناظرين حالياً حول قانون الانتخاب الأفضل تمثيلاً لهم قبل السواد الأعظم من اللبنانيين.
لو كانت عقدة «الدولة» في لبنان محصورة بقانون انتخاب «عصري» لهان القبول بمنطق إصلاح لبنان انطلاقاً من آلية انتخاب برلمانه.
ولكن مشكلة تغييب الدولة في لبنان تبدأ باللبنانيين أنفسهم - كي لا نقول معظم ساستهم - ونزعتهم الفذة لاعتبار الدولة مطية لمصالحهم لا راعية لها.
عملياً، لا فرق بين «قانون الستين» وقانوني النسبية و«البين – بين» (المسمى بالمختلط) طالما أن ذهنية الناخب اللبناني لم تتبدل منذ قيام «لبنان الكبير»، ولا التدخل الخارجي في قراره انحسر مع الزمن - إن لم يكن ازداد.
اللبناني لا يذهب إلى صناديق الاقتراع لينتخب حزباً أو توجهاً سياسياً كي يكون نظام الاقتراع النسبي الحكم بينها بل «وسطاء» له مع السلطة و«مخلّصي معاملات» مع دوائرها، وفي أحسن الحالات (وأسوأها في الواقع) لانتخاب «حامي حمى» مصالح طائفتهم، ومن ورائها، يوم تقرع طبول «يا غيرة الدين».
من هنا «سر» استنساخ برلمانات لبنان أنفسها بأنفسها.
ست أو سبع عائلات سياسية، معظمها مدعوم، من الخارج، تتوارث المقاعد النيابية مع حاشيتها. إن غاب وجه من وجوهها يخلفه بديل من أهله، غالباً ما يكون قد أعد سلفاً ليصبح «خير خلف لخير سلف»، فلا غرابة أن يكون معظم أرباب العائلات السياسية في لبنان مع قانون انتخاب يلائم الأنسباء قبل النسبية.
السياسة، بالمعنى الأكاديمي للكلمة، كانت ولا تزال، الغائب الكبير عن الحملات الانتخابية في لبنان إلى حد يبرر القول إن انتخابات لبنان تحولت في العقود الأخيرة إلى عمليات تعيين للنواب... بالاقتراع الشعبي.
في ظل نظام برلماني يجدد قديمه باستمرار، وذهنية انتخابية متجذرة منذ أول انتخابات نيابية في لبنان، يصح التساؤل: ما جدوى اعتماد نظام الاقتراع النسبي ولا وجود لأحزاب لبنانية تتنافس ببرامجها السياسية على أصوات الناخبين؟ واستطراداً، ما جدوى النسبية في نظام ديمقراطي يتفق الجميع على تهميش ديمقراطيته الخالصة بوصفه بـ«الديمقراطية التوافقية» مراعاة لتوازناته الطائفية الهشة؟
لا جدال في أن نظام الانتخاب النسبي من أفضل الأنظمة تمثيلاً للرأي العام في المجتمعات المسيّسة. ولكنه في مجتمع «متمذهب» كالمجتمع اللبناني، قد يؤدي اعتماده إلى عكس المطلوب منه. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ماذا يمكن توقعه إن حدث يوماً أن أطاح نظام الانتخاب النسبي الاعتبارات «التوافقية» للديمقراطية اللبنانية؟
عقدة لبنان المزمنة أنه مجتمع تعددي لا ديمقراطي، فديمقراطيته - إن صحت التسمية لها - ليست ديمقراطية «خيار» سياسي بقدر ما هي ديمقراطية «ضرورة» ديموغرافية، أي نطاق ضمان لتعايش عائلاته الروحية بسلام.
وإلى أن يتقبل اللبنانيون نظاماً سياسياً علمانياً وقانون انتخاب لا طائفي، قد يكون أفضل ما يمكن أن يحققوه في الظروف الإقليمية والداخلية الراهنة، إقرار مساواة سياسية طال انتظارها بين عائلات وطنهم الروحية في إطار مجلس شيوخ منتخب تتمثل فيه، بالتساوي، كل طوائف لبنان ومذاهبه كائناً ما كان تعدادها السكاني. ومنح هذا المجلس صلاحية التشريع النهائي- أي حق الرقابة التشريعية على مجلس النواب - من شأنه تسهيل عملية إقرار النظام الانتخابي لمجلس النواب حتى ولو كان نظاماً نسبياً.
لافت ألا يتطرق معظم سياسيي لبنان إلى هذا المدخل الدستوري لإصلاح الدورة التشريعية في بلدهم خصوصاً أن اتفاق الطائف نص على إنشاء هذا المجلس ووضعه في خانة التمهيد لإلغاء الطائفية السياسية في لبنان.
ربما يكفي أن يعود اللبنانيون، بأمانة، إلى اتفاق الطائف ليتذكروا أن تحديث الدولة يبدأ بإقامة مجلس الشيوخ... قبل إقرار أي نظام انتخابي لمجلس النواب.
باختصار كلي: من هنا نبدأ.