مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

ترمب والجنرالات

بعد شهر من توليه السلطة، أثار الرئيس الأميركي دونالد ترمب أزمات دبلوماسية غير متوقعة مع دول حليفة، من السويد إلى أستراليا مروراً بفرنسا. كما أنه اختلق مشكلة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عندما وصفه بأنه قد «عفّى عليه الزمن». ولكنها أزمات عابرة، مبنية على مناوشات كلامية لا تشكل سياسة خارجية جديدة للولايات المتحدة ولكنها تنذر بالمشاكل التي قد تلحق بمكانة واشنطن وعلاقاتها بوجود رئيس لا يبالي بتقاليد الدبلوماسية، خاصة مع إضعاف وزارة الخارجية يوماً تلو يوم. وأما فيما يخص سياسة ترمب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فالنظر يتجه إلى العسكريين الذين عيّنهم ترمب، وعلى رأسهم الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس وزيراً للدفاع، والجنرال المتقاعد إتش آر ماكماستر، الذي أصبح مستشاراً للأمن القومي بعد استقالة الجنرال المثير للجدل مايكل فلين، المعروف بمعاداته للمسلمين. وكان ماتيس مسؤولاً عن ترميم بعض ما خربته تصريحات ترمب، من طمأنة أعضاء «الناتو» بالتزام واشنطن بالحلف إلى التأكيد للعراقيين بأن بلاده لا تطمع في نفطهم.
تقدم ماتيس وماكماستر في صفوف صناع القرار بالإدارة الأميركية فيما يتعلق بالشؤون الخارجية، فهذا تطور مهم في واشنطن. فالرجلان معروفان بين الجنرالات الأكثر ثقافة وإلماماً بشؤون المنطقة، خاصة أنهما حاربا في العراق وفهما منطقة الشرق الأوسط. كما أن ماتيس من أشد المعارضين للتوسع الإيراني في المنطقة وكان قد صرح في أبريل (نيسان) 2016 بأن «إيران، في عقلي، تشكل التهديد الأطول تأثيراً لاستقرار وسلام الشرق الأوسط... مع كل الحديث عن (داعش) و(القاعدة) في كل مكان الآن، وهما تهديدان خطيران جداً، لكن لا يوجد (تهديد) أكثر خطراً من إيران على المدى البعيد... من حيث الاستقرار والازدهار وبعض الأمل لمستقبل أفضل» للمنطقة. وهناك عدد من العسكريين السابقين عينوا في مجلس الأمن القومي كانوا قد حاربوا في العراق ويعتبرون التأثير الإيراني في العراق من أكبر المخاطر في المنطقة.
أما ماكماستر، فهو من أكثر المطالبين بزيادة الإنفاق العسكري الأميركي ودعم القوات العسكرية بمعدات وقدرات جديدة. وفي مقال نشرته مجلة «فورين أفيرز» هذا الأسبوع، كتب ماكماستر عن أهمية زيادة الإنفاق العسكري على القوات البرية وعدم الاكتفاء بالقوة الجوية. ويذكر أن إنفاق «البنتاغون» وصل عام 2009 إلى 691 مليار دولار، وبحلول عام 2015 كان بحدود 580 مليار دولار. وبالطبع ما زال الأعلى في العالم. ويتجه ترمب إلى رفع ميزانية وزارة الدفاع في خطوة تزيد من قوتها وتأثيرها. ونقلت وكالة «رويترز» عن مسؤول في الإدارة الأميركية قوله إن ترمب خصص تمويلاً إضافياً لـ«بناء السفن وحاملات الطائرات وتأسيس وجود أكثر صلابة في ممرات مائية دولية أساسية»، مثل مضيق هرمز وبحر الصين الجنوبي. وقد تعهد ترمب يوم الجمعة الماضي بأنه سيشرف على «أكبر توسع عسكري في تاريخ أميركا». تأثير هذا التوسع على العالم العربي سيعتمد على القادة العرب الذين يتمتعون بنفوذ في واشنطن وقدرتهم على بناء الجسور والمصالح المشتركة مع صناع القرار كي لا تصبح دولهم هدفاً لهذا التوسع.
وعن التصدي لإيران ورفع الإنفاق العسكري، فهما سياستان مختلفتان عن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، الذي قلل من شأن خطر التوسع الإيراني في المنطقة وجعل تقليص الإنفاق العسكري من أهداف وزارة الدفاع ضمن معالجة الأزمة الاقتصادية الأميركية.
ومن المثير كيفية تغير موقع العسكريين في البيت الأبيض، مقارنة بسنوات إدارة أوباما؛ إذ شهدت ولايته فترات متوترة مع الجنرالات واستقالة عدد منهم. وشهدت العاصمة الأميركية زلزالاً سياسياً صيف 2010 عندما اضطر الجنرال ستانلي ماكريستال إلى تقديم استقالته من الجيش بسبب نشر مقال مفصل في مجلة «رولينغ ستون» كشف مدى استهزائه بأوباما ونائبه جو بايدن. وجاءت استقالة ماكريستال بعد عام من قرار أوباما فصل الجنرال ديفيد ماكيرنان من منصبه قائداً للقوات الأميركية في أفغانستان. وكان فصله علنياً ولكن من دون تفسير؛ إذ قال قائد القيادة المشتركة حينها الأميرال مايك ماكلين: «نحن نتعلم مع تطور الأمور هنا». وكان ماكيرنان قد طالب بإرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان، الأمر الذي خالف توجه أوباما. كما أن فضيحتين من جراء تسريب رسائل إلكترونية للجنرالين ديفيد بترايوس وجون آلن أثرا على صورة الجنرالات خلال حقبة أوباما.
وحمل أوباما توجهاً فكرياً واضحاً وهو أهمية أن تبرز سلطة القيادة المدنية على القيادات العسكرية. وحرص على إظهار سلطته إلى القيادات العسكرية. وكان أوباما قد جعل تقليص الوجود العسكري الأميركي خارجياً وعداً انتخابياً عام 2008، وشهدت ولايتاه جهوداً بهذا الاتجاه، ولكن مع التطورات في العراق وأفغانستان وظهور «داعش»، انتهى حكمه بعمليات عسكرية متصاعدة وزيادة عدد القوات الأميركية في البلدين.
أما ترمب، فهو لا يحمل آيديولوجيا واضحة يمكن الإشارة إليها، ولكنه كرر شعارات لتقوية القدرات العسكرية الأميركية خلال الحملة الانتخابية العام الماضي. ويحاول ترمب أن يظهر نفسه مناصراً للجيش الأميركي، ولكن في واقع الحال تحاول المؤسسة العسكرية ألا تصبح أداة سياسية وأن تكون على نفس المسافة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
ويعمل ترمب على رفع مكانة وزارة الدفاع، على حساب وزارة الخارجية التي من المتوقع أن تشهد خصم الملايين من ميزانيتها، وترجح «رويترز» أن تصل إلى 30 في المائة من ميزانية الوزارة. ويعكس ذلك توجهاً لإبعاد وزير الخارجية ريكس تيلرسون عن دائرة صنع القرار في سيناريو شبيه بما فعلته إدارة جورج بوش الابن عندما همش كولن باول ووزارة الخارجية على حساب صعود دونالد رامسفيلد ووزارة الدفاع.
وفي هذه الحالة، يقع على عاتق ماتيس والمقربين منه في الإدارة الجديدة، تهدئة مخاوف الحلفاء الخارجيين وإقناع ترمب باتخاذ سياسات خارجية أكثر عقلانية. ومن هزيمة «داعش» إلى محاولة جلب الاستقرار إلى العراق وسوريا، تواجه وزارة الدفاع تحديات حقيقية، وذلك مع توجس أوروبا من رئيس أميركي يهادن نظيره الروسي الطامع في توسيع نفوذه، وخاصة في شرق أوروبا.
وبينما يعتقد البعض بأن وجود عسكريين بين كبار المسؤولين الأميركيين قد ينذر بقدوم حروب جديدة، بناء على مبدأ أن العسكري يجيد التوصل إلى حلول عسكرية لأية مشكلة، فإن هذا التصور ليس بهذه البساطة. فهؤلاء جميعاً ذاقوا مرارة الحروب خاصة حروب الشوارع في العراق وأفغانستان، وعرفوا تكلفتها، فمن المتوقع أن يكونوا أكثر حرصاً على عدم الخوض في معارك متسرعة أو غير محسوبة النتائج. ولكن في الوقت نفسه، هناك عدد من العسكريين السابقين في الإدارة الأميركية الذين يعرفون أهمية إظهار القوة في الوقت المناسب لخصم ما، والتي قد تمنع حرباً شاملة مستقبلاً.