مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

سأتطرف... رسالة إلى دونالد ترمب

هل تتصور سيدي الرئيس أن رجلاً يتطرف بعد سن الخمسين؟ التطرف من سمات الشباب، ولكني أعدك أنني وفي الخمسين من عمري سأتطرف إذا ما قررت سيادتك نقل السفارة الأميركية للقدس، ليس في جسدي عظمة واحدة تميل إلى التطرف، فقد تعلمت التسامح من والدي ومن مصر ومن المجتمع الأميركي الذي قضيت فيه نصف عمري تقريبًا، وأحببت فيه التعددية والتسامح وفكرة أن السماء هي حدود الطموح، ومع ذلك أعدك أنني سأتطرف.
سيدي الرئيس، هل تعلم أنني لم أرَ القدس في حياتي وربما لا أريد أن أراها، ومع ذلك هي ثالثة القبلتين بالنسبة لي كمسلم، لا أدري كيف أصف لك شعوري عن القدس رغم علمانيتي، ومع ذلك فأنا مستعد أن أتطرف من أجلها.
هل تعرف أن هذا الإنسان الذي قد يتطرف هو أب لطفلتين في السابعة والرابعة من العمر، ولم يحب مثلهما في الحياة شيئًا من قبل ولا من بعد، ومع ذلك أعدك أنني سأتطرف من أجل القدس، ليس رغبة مني، ولكن لو تعلم سيدي، فإن نقل السفارة سيحرك الأرض من تحت ملايين البشر كتلك الهزات الجيولوجية الكبرى التي تفصل طبقات الأرض عن بعضها بعضا. ربما لا تعرف ذلك، ولكن ستراه بأم عينك عندما تقوم بهذا العمل غير المسبوق. فالإسرائيليون أنفسهم ومنذ احتلال القدس عام 1967 يعرفون مغزاها، ولذلك لم يقدموا على خطوات تهز مشاعر المسلمين.
هل تعرف سيادة الرئيس أن مشاعري تجاه الفلسطينيين وفلسطين ذاتها هي مشاعر مختلطة، أحب بعضهم ولا أحب كثيرين منهم، ومع ذلك ومن أجلهم سأتطرف.
هل تعلم أن محمود درويش لم يكن متطرفًا، ولكن أوصلته المأساة وظلمتها الحالكة السواد إلى حافة التطرف، عندما كتب «عابرون في كلام عابر»، تطرف درويش في الربع الثالث من العمر، وعندها كتب: «أيها المارون بين الكلمات العابرة.. آن أن تنصرفوا.. وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا.. آن أن تنصرفوا.. ولتموتوا أينما شئتم... ولكن لا تموتوا بيننا»، كلمات قاسية، ولكنها الحياة القاسية التي تدفع إلى التطرف دفعًا، ومع ذلك، فأنا لم أكن من عشاق درويش، بل أحب الاتساع العاطفي عند أنطون شماس في «أرابيسك»، مساحات الرحمة والتراحم، ورغم كل هذا أجدني اليوم أقرأ «عابرون في كلام عابر» بعين مختلفة، وأقدر الشاعر محمود درويش أكثر اليوم، خصوصًا عندما تطرف. هل تعلم ورغم كل هذا أن بعضًا من قومي يرون أنني متصهين، لأنني أتفهم مأساة اليهود في أوروبا، وأتعاطف مع تلك التراجيديا البشرية، ورغم ذلك سأتطرف.
ليس برغبة لديَّ لأقنع قومي أنني مثلهم أحب فلسطين، بل لأنني عكسهم تمامًا. فأنا لست من القطيع ولا أحترم تفكير الجماعة، فأنا فرد مستقل وروحي حرة لا يملكها إلا من خلقها، ومع ذلك عندما تنقل السفارة للقدس سأتطرف.
كنت في صباي ضد تجييش العالم العربي كله وتعطيل كل شيء من أجل القضية الفلسطينية وفكرة تحرير الأرض من اليهود، وكنت أرى أن تحرير البشر وتحرير الإنسان أهم من تحرير الأرض، الإنسان الحر هو الذي يحرر الأرض ولم نعرف عن عبيد حرروا أرضهم، كنت أنادي بالإنسان أولاً كما تنادي أنت بأميركا أولاً، ومع ذلك سأتطرف.
سأتطرف لأنني مختلف، سأتطرف لأنني مؤمن بأن من المآسي الكبرى التي مرت على الإنسانية أن يستعبد الإنسان أخاه الإنسان وأن يحرقه في أفران الغاز لأنه مختلف. ومع ذلك فمأساة الفلسطينيين التي يشهدها العالم كل يوم ليست بعيدة عن تلك المآسي الكبرى التي تهز ضمير أي إنسان. أنا يا سيدي الرئيس من المسلمين الذين يؤمنون بآية واحدة نفتتح بها صلاتنا وحياتنا وهي «بسم الله الرحمن الرحيم»، لتوصلنا إلى الرحمة والتعاطف (mercy and compassion) مع الإنسان أيًا كان، وهذه هي النظارة (الرحمن الرحيم) التي أقرأ بها القرآن، ولذلك فهو لي كتاب رحمة. ورغم هذا سأتطرف.
بالأمس سيدي الرئيس كنت أقرأ مع ابنتي، بنت السابعة من العمر قصيدة بعنوان «أبو بن أدهم» للشاعر لي هينت (Leigh Hunt)، حيث كان «أبو» يشاهد ملاكًا يكتب في كتاب من ذهب عمن يحبون الله، وقال «أبو» للملاك: هل اسمي موجود بين من يحبون الله، فقال الملاك بحزن: لا. وقال «أبو» للملاك: اكتبني كإنسان يحب أخاه الإنسان. وفي الليلة التالية جاء الملاك لـ«أبو» في النوم، فرأى «أبو» أن اسمه أول الأسماء ممن يحبهم الله لأنه أحب أخاه الإنسان أولاً. ليس لديَّ مشكلة مع أحد، لا مع اليهود أو مع غيرهم، فأنا محب للإنسان والإنسانية ومع ذلك، إن نقلت السفارة للقدس، سأتطرف.
سيدي الرئيس، نحن قوم أضعف مما تتخيل وأقوى مما تتخيل، نحن أهون على الله من بيت العنكبوت، ولكن التاريخ لم يكن رحيمًا بنا، لذلك نتطرف، ليس لأننا متطرفون بالفطرة، ولكن لأن أقدامًا كثيرة داست على أحلامنا البسيطة.
أنا ممن قرأوا «والدن» لهنري ديفيد ثورو، وقرأوا ويليام فوكنر «الصخب والعنف» وقرأوا تي إس إليوت وقرأوا مارك توين وأيضًا دبليو بي ييتس، وكل هذا في جامعاتكم، قرأت نصوصًا توحي بإنسان مركب. إنسان يمشي على الخط الفاصل بين ما يمكن أن يقال وما لا يقال على رأي الشاعر الكبير وولت ويتمان وهذا ما يجعلني أتطرف. سأتطرف لأنني عرفت معنى العدل والظلم في جامعات أميركا وأعلم أن ما ستفعله ظلم وجور ولذلك أعدك أنني سأتطرف. سيدي الرئيس، إن الفكرة المسيطرة عليك وعلى عقول من حولك أن المسلمين مجموعة مجانين لن يسهموا ولم يسهموا في تطور البشرية هي فكرة خاطئة. إننا قوم نفكر بعمق حتى في أبسط الأمور ونفلسفها، فنحن قوم لم يعد لدينا سوى التفكير في مأساتنا التي أصبحت عبئًا عليكم وعلى غيركم، ومع ذلك نحن نتحمل تبعات ما نفعل، فقلوبنا قديمة قدم بلداننا، قلوب اكتوت بالحب كما تحرق النار الطين فيصبح فخارًا. إن محبتنا لبلادنا واكتواءنا بعذابات أهلنا هي التي صنعت منا تلك القلوب القاسية، ولذلك وفي الخمسين سأتطرف.
إن الشخص الذي يكتب لك سيدي الرئيس مدرك للأبعاد الاستراتيجية لأمور مثل نقل السفارة للقدس، وقد درست السياسة الدولية في جامعاتكم وقمت بتدريس الموضوع ذاته في الجامعات ذاتها لسنين عددًا. وفي كل تجربتي أدركت كيف أن أحداثًا صغيرة قد تشعل العالم برمته، وما عليك إلا دراسة أخبار الحرب العالمية الأولى. لتتذكر سيدي الرئيس أنه وفي 14 يونيو (حزيران) 1914 جاء مقتل هانز فرديناند، حدث صغير أشعل شرارة الحرب العالمية الأولى بالضبط كما احترق نصف العالم العربي نتيجة إحراق الشاب بوعزيزي لجسده في تونس ومعه اشتعل جسد العالم العربي كله.
إن ما ستفعله سيادة الرئيس وفي لحظة حماس وربما دون قصد هو حدث يساوي مئات أضعاف حريق جسد بوعزيزي، أي إنك وبنقل السفارة للقدس ستحرق العالم العربي مائة مرة، ومع ذلك سيدي الرئيس كلي أمل ألا تدفعني أن أتطرف، فقد وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبًا، ومع ذلك لو نقلت السفارة للقدس سأتطرف. أرجوك ألا تمتحن هذه الفرضية فيَّ أو في غيري، لأن الأمر جد خطير، ولكن امتحن الإنسان الذي في داخلك، ساعتها ستدرك خطورة ما أنت مقدم عليه.