إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

جاسوسات في الخدمة

في روايته الشهيرة «1984» التي نشرها منتصف القرن الماضي، حاول الكاتب البريطاني جورج أورويل أن يرسم صورة العالم في ظل الأنظمة الشمولية. إن «الأخ الأكبر» يراقب الجميع. أي الأجهزة السرية التي تحصي على الناس أنفاسهم. وهو قد اختار عنوانها متصورًا أن تلك هي ما ستكون عليه الحال بعد أربعين سنة من تاريخ كتابة الرواية. لكن يبدو أن الحرية ستبقى الفاكهة المشتهاة، شرقًا وغربًا.
لم يحدث أن لاحق الأخ الأكبر الناس مثلما يحدث حاليًا. جرّب أن ترفع رأسك، وأنت تمشي في شوارع المدن الكبرى، وتحصي عدد الكاميرات المصممة بحيث تسجل سحنتك وثيابك وحقيبتك وتستدير معك حيثما استدرت. تغادر مجال كاميرا فتتلقفك أخرى. في الجامعات والمستشفيات والمصارف والفنادق والمرافق العامة وعربات النقل والمطاعم والمراقص. الفرد مرصود حتى لو تصوّر نفسه حُرًا كالطير. ومئات الملايين من البشر المسالمين يدفعون ثمن جموح فئة قليلة من اللصوص والمتحرشين والإرهابيين. إن الأخ الأكبر يراقبك لأنك تسير في الشارع ذاته الذي يمرّ فيه الإرهابي والحرامي.
بيننا من يشعر بالقلق من احتمال قرصنة بطاقته الائتمانية أو بريده الإلكتروني. يحاول تفادي ذلك بشيء من الحذر. ينسى أن هاتف بيل كلينتون، رئيس الولايات المتحدة وأقوى رجل في العالم، تعرّض للتنصت والتسجيل في قضية مونيكا. كما تسربت إلى العلن رسائل هيلاري، زوجته المرشحة للرئاسة، التي بعثتها من بريدها الخاص. وقبل يومين، قرأنا أن روسيا مارست قرصنة إلكترونية وتدخلت في نتائج الانتخابات الأميركية. حكاية تصلح لهوليوود. وحتى طاولة الاجتماعات في صحيفة مثل «نيويورك تايمز» مزودة بمسجل خفي يوثق كل ما يقوله المحررون. من تكون أنت ومن أكون أنا وغيري من الخلق لكي نطمئن على أنفسنا من «الداسوس» حسب باب الحارة؟
استيقظ الفرنسيون، الأسبوع الماضي، على تقرير رسمي يكشف ما ظل، حتى الآن، سرًا من أسرار الدولة. لقد بلغ عدد الذين تجسست عليهم الأجهزة خلال السنة 20 ألفًا و282 مواطنًا ومقيمًا. وكلمة «الأجهزة» لا تعني الثلاجات والغسالات والمكانس الكهربائية. إنها التسمية المخففة للجواسيس الرسميين. أي المخابرات ومباحث أمن الدولة. وتراوحت فنون المراقبة بين التقارير التي يكتبها مخبرون وزرع أجهزة تنصت وكاميرات في البيوت. وكنا، في العراق، نقول إن فلانًا ذو خط جميل، أي بارع في كتابة التقارير.
تدخل إلى المكتبات في باريس وتجد على رف الكتب الأكثر مبيعًا كتابًا لدليلة قرشوش بعنوان «جاسوسات». وتمكنت المؤلفة من مقابلة فرنسيات يشتغلن في «الأجهزة». ومن بين مئات، سمحوا لها بأن تستجوب ستًا منهن. أمهات عاديات يأخذن أطفالهن إلى المدارس في الصباح ثم يذهبن ليراقبن الأفلام التي صورتها الأقمار الصناعية، أو يقرأن تقارير المتنصتين على الهواتف. وبسبب الأوضاع الحالية، فإن أغلب هؤلاء المتعاونين هم من الأفغان والعرب. ثم تقوم الجاسوسة (والتسمية ليست من عندي بل من عنوان الكتاب) بتحليل التقارير واستشراف المخاطر المحتملة وتحذير القوات الموجودة على الأرض من تحركات مشبوهة لمجموعات إرهابية. إنهن يحملن شهادات عليا من معاهد مرموقة للعلوم السياسية. وبعضهن لا يكتفين بالجلوس وراء المكاتب والشاشات بل يقمن برحلات إلى مناطق النزاع. لكن حتى الجلوس وراء الشاشات ليس بالمهمة اليسيرة. أي امرأة هي تلك التي تتفرج وتدقق في أفلام نحر الرقاب وحرق الضحايا أو إغراقهم في أقفاص حديدية، ثم يكون عليها أن تعود إلى بيتها وتجامل زوجها وتلاعب أطفالها وتعد العشاء لعائلتها؟
في المكتبة كتاب آخر بالعنوان نفسه، «جاسوسات»، مترجم عن الألمانية لمؤلف يدعى وليم دييتل، يتطرق إلى عميلات الموساد. وهناك رواية باولو كويلو الجديدة «الجاسوسة». ويبدو أن عمل النساء في هذا الميدان الوعر موضوع جذاب للقراء، منذ الأيام التي كانت فيها المرأة تستخدم جمالها للإيقاع بالجنرالات والسفراء وحفظ ما يفضفضون به وهم في أحضانها، وحتى الزمن الذي صارت فيه تعتمد على عقلها ومعلوماتها. وهناك أجهزة ما زالت تستثمر الموهبتين. ولعلها ثاني أقدم مهنة في التاريخ.