د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

قلة النوم.. تأثيرات اقتصادية بالغة

عُمق التأثيرات ومدى تشعبها، أحد أهم عناصر تقدير حجم المشكلة الصحية وتصنيف درجة الأولوية في المبادرة إلى معالجتها، والأهم تحديد مستوى ونوعية متابعة الوصول إلى أهداف استراتيجية التعامل معها. وما من وسيلة إلى معرفة «عمق التأثيرات» و«مدى تشعبها» لأي مشكلة صحية؛ سوى إجراء دراسات إحصائية ميدانية تُعطي نتائج موثقة ومفهومة ومستندة إلى أرقام واقعية تم التوصل إليها بطريقة صحيحة لتحليل البيانات.
وقلّة النوم، وفق تقييم «المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض واتقائها»، (CDC)، «مشكلة تزداد ملاحظة أهميتها في شأن الصحة العامة للناس، ويزداد عدد من يعانون منها؛ إذ إن نحو 70 مليون شخص بالغ يعانون من اضطرابات النوم واليقظة في الولايات المتحدة». كما أن نسبة نحو 20 في المائة من السكان أفادت بها أيضًا إحصاءات مماثلة في كثير من دول ومجتمعات العالم بمعدلات متفاوتة.
وإضافة إلى العلاقة الوثيقة بين قلّة النوم وارتفاع الإصابات بأمراض مزمنة عدة، مثل ارتفاع ضغط الدم، ومرض السكري، والاكتئاب، والسمنة، والسرطان، وارتفاع معدلات الوفيات، وتدني نوعية معايشة الحياة اليومية، تذكر المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض واتقائها أن قلّة النوم تسبب كذلك ارتفاع معدلات حصول حوادث السير والكوارث الصناعية والأخطاء المهنية.
والسؤال: بلغة الأرقام في عالم يُحركه الاقتصاد، ما حجم العبء المادي الاقتصادي لهذه المشكلة الصحية الشائعة؟
الباحثون من الفرع الأوروبي لـ«مؤسسة راند»، (RAND Corp)، أو «مؤسسة الأبحاث والتطوير الأميركية»، نشروا على الموقع الإلكتروني للمؤسسة في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي نتائج دراستهم حول هذا الأمر، التي تمت بالتعاون مع الباحثين من جامعة كمبريدج، وكانت بعنوان: «لماذا يهم النوم؟: تحديد مقدار التكاليف الاقتصادية لعدم كفاية النوم». وكشفت الدراسة أن انخفاض الإنتاجية وزيادة خطر الوفاة، الناجمين عن قلّة النوم بين العاملين في الولايات المتحدة، يُكلّفان اقتصاد البلاد خسائر بمقدار يفوق 411 مليار دولار سنويًا. وأضاف الباحثون من «مؤسسة راند»، وهي مؤسسة غير ربحية للأبحاث والتطوير، أن تدني إنتاجية العامل بسبب قلّة النوم يشمل التغيب عن العمل «Absenteeism»، أو العمل بمستوى أقل من المتوقع «Presenteeism»، وأن نتائجهم لاحظت تسبب قلّة النوم بفقدان نحو 1.2 مليون يوم عمل بالولايات المتحدة سنويًا.
وأضافوا أن الشخص الذي ينام أقل من 6 ساعات من ساعات الليل يكون عُرضة بشكل أعلى لخطورة الوفاة «Mortality Risk» بنسبة 13 في المائة، بالمقارنة مع شخص ينام ما بين 7 و9 ساعات من ساعات فترة الليل بالذات، وتنخفض تلك النسبة بمقدار نحو النصف بمجرد القيام بتغيير طفيف في عدد ساعات النوم الليلي، أي تنخفض خطورة الوفاة لتصل إلى 7 في المائة لدى منْ ينامون ما بين 6 و7 ساعات. وعلّق الدكتور ماركو هانفير، الباحث الرئيسي في الدراسة، بالقول: «دراستنا تبين أن ثمة تأثيرات واسعة النطاق لقلّة النوم، وقلّة النوم لا تُؤثر فقط على صحة الشخص ومستوى رفاهيته الصحية؛ بل لها تأثيرات عميقة على الاقتصاد بتدني الإنتاجية وارتفاع مخاطر الوفيات بين العاملين». وأضاف قائلاً: «تحسين عادات ومدة نوم الشخص، له بالمقابل آثار ضخمة، وأبحاثنا تفيد بأن إجراء تغييرات بسيطة يُمكن أن يُحدث فروقًا كبيرة، وعلى سبيل المثال؛ لو أن أولئك الذين ينامون أقل من 6 ساعات بالليل يرفعون ذلك إلى ما بين 6 و7 ساعات، فإن هذا يُمكنه أن يُضيف أكثر من 226 مليار دولار سنويًا للاقتصاد الأميركي».
ولاحظ الباحثون في نتائجهم أن الاقتصاد الأميركي يُعاني أكبر عبء اقتصادي لقلّة النوم، بالمقارنة مع 4 دول أخرى متقدمة «OECD Countries» شملها الباحثون بالمقارنة في الدراسة. وقالوا إن اليابان هي الثانية، ويبلغ فيها مقدار الخسائر الاقتصادية لقلّة النوم نحو 138 مليار دولار سنويًا، وتفقد نحو 600 ألف يوم عمل سنويًا، تليها ألمانيا التي تفقد 60 مليار دولار سنويًا ومائتي ألف يوم عمل سنويًا، ثم بريطانيا التي تفقد 50 مليار دولار سنويًا ومائتي ألف يوم عمل سنويًا، وفي ذيل قائمة الدول الخمس كانت كندا التي تخسر 21 مليار دولار سنويًا و80 ألف يوم عمل سنويًا، كل ذلك بسبب تأثيرات قلّة النوم.
وأفاد الباحثون بأهمية ملاحظة العامل والموظف تأثيرات النوم الكافي على رفع مستوى كفاءته وإنتاجيته والترقي الوظيفي، وملاحظته ظروف السلامة في مكان العمل، والحد من استخدام الأجهزة الإلكترونية، كالهواتف الجوالة، أثناء العمل. ونصح الباحثون بضرورة دعم الاختصاصيين الصحيين في تقديمهم المساعدة فيما يتعلق بالنوم ومشكلاته لدى الناس.
والواقع أن نشوء مشكلة قلّة النوم تتعدد أسبابه، وكثير من المصادر الطبية تُصنفها ضمن مجموعتين متداخلتين في المسببات والتأثيرات، وهي إما اضطرابات نوم مرضية كالأرق وانقطاع التنفس أثناء النوم.. وغيرهما من الاضطرابات الصحية للنوم، وإما اضطرابات سلوكية في نمط عيش الحياة اليومية، كعدم الانتظام في مواعيد الخلود إلى النوم، وتوتر وضغوطات الحياة اليومية، واستخدام الأجهزة الإلكترونية ذات الشاشات المضيئة، وعدم خفض إضاءات المنزل في فترة ما بعد مغيب الشمس، والتدخين وتناول المشروبات الكحولية. وعلى الرغم من أن لاضطرابات النوم المرضية انتشارًا مُلاحظًا طبيًا، فإن الاضطرابات السلوكية هي الأعلى في التسبب بقلّة النوم على نطاق واسع. ولذا، فإن إجراء تغييرات بسيطة في السلوكيات اليومية، التي من أهمها خطوة «وضع الخلود إلى النوم في ساعات الليل بشكل كاف أولويةً لما على المرء ممارسته في الليل» بوصفها أساسًا لمعالجة هذه المشكلة، تليها خطوة «تحديد وقت النوم» وعدم مجاملة أي ظروف في ذلك، ثم خطوة الاهتمام بـ«نظافة النوم» Sleep Hygiene التي من أبسط مكوناتها قبل النوم أن يتم تحاشي تناول وجبات طعام دسمة، أو مشروبات محتوية على الكافيين، أو التدخين، وعدم استخدام أي أجهزة إلكترونية ذات شاشات مضيئة في غرفة النوم، والخفض التدريجي للإضاءة المنزلية قبل حلول موعد النوم.

* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]