صاغ جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، مصطلح «القوة الناعمة» لأول مرة في بداية العقد الأخير من القرن الماضي٬ وعرّفه بشكل عام بأنه القدرة على التأثير والإقناع من دون اللجوء للقوة والإكراه. وانتشر بعد ذلك هذا المصطلح واستخداماته انتشار النار في الهشيم بين الساسة والأكاديميين وطلبة العلوم السياسية. قد يتساءل شخص ما عن علاقة هذا المفهوم بجماعات العنف والإرهاب الموغلة في الوحشية والقائمة على المواجهة المسلحة.
من الصعب تصور امتلاك هذه الجماعات - بالأخص «داعش» - لأي نوع من القوة سوى القوة الصلبة. فعلى سبيل المثال٬ كان أتباع الزرقاوي يشيدون به على أنه «شيخ الجزارين»٬ وأفلام الإعدامات بالحرق والغرق وجز الرؤوس التي تصدرها هذه الجماعات تعطي انطباعا أوليا بأنها لا تعير وسائل «القوة الناعمة» أي اهتمام.
لكن الحقيقة مغايرة تماما لذلك. فالمتتبع للجماعات الإرهابية والباحث في شؤونها سيجد أن عالم التشدد والإرهاب والتطرف لا يقتصر على العنف والجانب القتالي العسكري فقط، بل له جانب أنعم يتضمن طريقة الملبس، العبادة، الشعر، الأناشيد، تفسير الرؤى والأحلام، تبادل الروايات حول الكرامات. هذه «الثقافة» والتي عرفها الباحث في شؤون الجماعات المتشددة، توماس هيقهامر، بأنها «المنتجات والممارسات التي تتعدى الاحتياجات العسكرية الأساسية للجماعات المتشددة»، لا بد من أخذها في الاعتبار عند أي محاولة لسبر أغوار سر جاذبية هذه الجماعات واستقطابها للآلاف من الأشخاص حول العالم. إن هذه الثقافة بطبيعتها تخلق جاذبية عاطفية لا يمكن الاستهانة بها، كما أن دراستها والاهتمام بها - وإن كان يبدو أقل أهمية من الاهتمام بمواضيع الآيديولوجية المحركة لهذه الجماعات، وشخوصها، وأهدافها واستراتيجياتها العسكرية - سيعوض نقصًا حادًا في هذا الجانب في الدراسات الأكاديمية حول الإرهاب، يلقي الضوء على كيفية تفكير وتصرف هذه الجماعات، ويعزز فهمنا لأسباب الانضمام لها، ويساعد بالنتيجة على صياغة خطاب مضاد أكثر دقة وأنجع تأثيرا.
إن أول ما يمكن ملاحظته حول هذه «الثقافة» هو استخدام أبنائها للكنى واللباس المميز، خصوصا عصابة الرأس. يمكن فهم ذلك في سياق رغبتهم بتحديد وتكوين «هوية» فارقة لهم يعرفون بها وتميزهم عن غيرهم. وقد اشتهر تنظيم داعش بذلك، خاصة بعد انتشار قصيدة «يا عاصب الراس وينك» التي أنشدها «شاعر داعش» سعد الشاطري المطيري في جلسة تضم عدة أعضاء من التنظيم، منهم القيادي «أبو وهيب» الذي قتل في مايو (أيار) 2016، والمنشد السعودي ماهر مشعل الذي انضم للتنظيم في 2013 وقتل في 2015.
أيضا، من الأمور الملحوظة في عالم هؤلاء المتطرفين كثرة العبادة والزهد وقراءة القرآن والبكاء، وهذا المظهر العام لهم يرسم انطباعًا وصورة حالمة عن عالمهم وثقافتهم لدى أذهان البعض، خصوصًا من أصحاب العلم الشرعي القليل والمحدود، بأنهم هم القابضون على دينهم والممثلون الصادقون له. فمثلا، كان أسامة بن لادن، برواية رفيقه إبراهيم القوصي، خلال فترة إقامته في السودان يأمر ابنه بفصل الكهرباء عن منزله كل صباح حتى يعيش وأهله الزهد واقعا. كما أنه مما اشتهر عن أبو مصعب الزرقاوي أنه كثير البكاء. والروايات التي يتناقلها ويرويها «المتشددون» اليوم عن بعضهم البعض حول هذا السياق كثيرة. إلا أنهم ليسوا بدعًا في هذا بل امتداد لما كان عليه الخوارج في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومصداق لقول نبينا عليه الصلاة والسلام «سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة». فلا تنفع الإنسان كثرة عبادته ولا زهده إن كان ضال الهدى والعياذ بالله.
أما بالنسبة للشعر والأناشيد، فلها موقع مميز في هذه «الثقافة». إن للشعر عند العرب مكانة خاصة، وقد كانت القبائل العربية قديما تسعد بظهور شاعر من أبنائها. وكذا الحال الآن مع الجماعات المتطرفة والإرهابية لإدراكها بأهمية هذا «الوسيط» لإيصال رسائل ومضامين قد تعجز الخطابة السردية أو الكتابة المقالية عن إيصالها. إن صياغة أعنف المضامين وأكثرها سوداوية وانحرافًا في قالب شعري جميل ومؤثر تجعلها تبدو أكثر رومانسية وجاذبية وإنسانية. لذا كثيرا ما تجد من المنتمين لهذه الجماعات احتفاءً بشعرائهم وتداولاً ونشرًا لقصائدهم في المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي. فمن أشهر شعراء «داعش» مثلا السورية المسماة «أحلام النصر» وهي تكتب بالعربية الفصحى، وكذلك السعودي سعد الشاطري الذي يكتب بالعامية.
أما إذا ما صاحب هذا القالب الشعري لحن جميل وصوت عذب، فإن التأثير يكون أصدق قوة وأكثر عمقًا. لذا قلما يمضي شهر أو أقل إلا وتجد نشيدًا متشددا جديدًا يضاف إلى قائمة آلاف الأناشيد التي تدور حول مواضيع عدة من أهمها: تكرار بيان أجر الجهاد و«الشهادة»، وذلك لتأليفها وترغيبها وإزالة الشكوك حولها في نفوس المتلقين، وكذلك إبراز «المتشددين» على أنهم القدوات والمدافعين عن الإسلام ضد الكفرة الصليبيين والمرتدين. لقد أدرك أحد أهم منظري التيار المتطرف أنور العولقي (قتل في 2011م) أهمية ودور الأناشيد في استنهاض الهمم والتأثير على الشباب، فكتب في كتيب نشره باللغة الإنجليزية مطلع 2009، بعنوان «44 طريقة لدعم الجهاد» أن الأناشيد اليوم من الممكن أن تلعب نفس الدور الذي كان يلعبه الشعر في صدر الإسلام من إلهام للمسلمين وتثبيط للكافرين. كما ذكر العولقي أن الأناشيد تضمن انتشارًا واسعًا للأفكار وهي «عنصر هام في خلق ثقافة الجهاد». كما حث على سد الفراغ فيما يخص الأناشيد باللغة الإنجليزية من قبل الشعراء والمنشدين الموهوبين من أهل اللغة.
وعيًا من جماعات الإرهاب والتطرف بأهمية الأناشيد وتأثيرها، أسس بعضها مؤسسات إعلامية تابعة لها متخصصة في إنتاجها، مثل مؤسسة أجناد الداعشية. كما أن أتباع هذه الثقافة والمتعاطفين معها لا يألون جهدًا في نشر وتحميل هذه الأناشيد عبر مواقع الشبكة الإلكترونية المختلفة وجعلها خلفية لكثير من مقاطع التدريب والقتال الخاصة بتلك الجماعات.
أخيرا، لا يمكن الحديث عن «الثقافة المتشددة» من دون المرور على أحد أهم عناصرها وهي الرؤى والأحلام. قد يبدو هذا الموضوع لمن هو خارج هذه «الثقافة» ليس ذا أهمية كبرى، ولكنه من أهم المحركات والمؤثرات في قرارات كثير من أبنائها، وذلك من خلال ربط الرؤى والأحلام بالواقع، ومن ثم التخطيط والتجهيز على أساسها. إن هذا الجانب أو العنصر لا يعد جديدًا على هذه الثقافة، بل من أقدم جوانبها الذي كان منتشرا بكثرة خلال فترات الجهاد الأفغاني الأول والفترة ما قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، بل حتى قبل ذلك مع جماعة جهيمان. وقد دعا انتشار تعبير الرؤى والاعتماد عليها بين أوساط «المتشددين» قبل أحداث سبتمبر، أبو مصعب السوري - أحد أهم منظري الفكر المتشدد التكفيري - إلى انتقاد الإسراف في ذلك والتنبيه من بعض آثاره السلبية مثل الخمول والكسل وانتظار الفرج، وذلك في فبراير (شباط) 2001. إلا أن ذلك لم يخفف من قوة حضور هذا الجانب المهم في «هذه الثقافة» لدى الجماعات والتنظيمات المتطرفة، وشواهد ذلك ودلائله واضحة، بدءا من الجلسة الودية التي جمعت بن لادن ببعض مقرّبيه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر يتداولون أحلاما ومنامات تفسّرها على أنها نصر كبير، وانتهاءً بالكثير من الرؤى والأحلام التي يفسّرها ويتناقلها أبناء هذه الجماعات اليوم تفسيرًا يخدم توجهاتها وأهدافها المرحلية الآنية والمستقبلية. ويكفي على سبيل المثال أخذ جولة سريعة في الموقع الداعشي «موسوعة دار الأرقم للرؤى العامة» لإدراك حجم ومركزية هذا العنصر في ثقافة هذه التنظيمات المتطرفة.
إن جميع هذه العناصر والممارسات التي تكوّن مجتمعة ما يمكن تسميته «الثقافة المتشددة» تستهدف البعد النفسي والعاطفي للمتلقي، وهي أمور، وإن بدت لنا تافهة أو أقل أهمية من غيرها من الجوانب المتعلقة بالظاهرة الإرهابية، إلا أن دورها وأهميتها في تثبيت وتعميق اعتقاد أبناء هذه الثقافة بصحة منهجهم، وجذب عناصر جدد لها لا يمكن الاستهانة به ويجب عدم الغفلة عنه. إن متابعة هذه الجوانب «الحياتية» غير العسكرية للمنخرطين في الجماعات الإرهابية، والتي تعد من أهم وسائل قوتهم الناعمة، ورصد اختلافاتها بين المجموعات وتحولاتها عبر الزمن، يعد مجالاً جديدًا غاية في الأهمية لنا معشر الباحثين والأكاديميين، وكذلك للمسؤولين القائمين على صياغة استراتيجيات المجابهة لخطابات هذه التيارات المتطرفة، من أجل فهم أعمق وتحليل أدق ومواجهة أجدى.
* أستاذ مساعد بكلية العلوم الاستراتيجية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية وباحث زائر بالمركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي - جامعة كينغز كوليدج - لندن