نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

وحدها وزارة الثقافة «سيادية»

تزامنت جهود تشكيل الحكومة اللبنانية والصراع السياسي على ما يسمى الحقائب الوزارية السيادية (الخارجية والدفاع والداخلية والمالية)، مع عرض عسكري كبير نظمته ميليشيا «حزب الله» في بلدة القصير السورية.
سخَّف هذا التزامن، البعد «السيادي» في صراع المحاصصة بين القوى السياسية اللبنانية، وهو صراع يقف دليلاً على أعطال النظام السياسي اللبناني برمته، وتحوله إلى نظام «صفقاتي» لا تربطه بالديمقراطية إلا آلية الانتخاب، مع ما تعانيه هذه من عدم انضباط مواعيدها وفراغها من مضمونها في معظم الأحيان.
عرض ميليشيا «حزب الله» في القصير السورية، ينزع الوهم السيادي للدولة عن سياستها الدفاعية التي يختصرها قول حسن نصر الله «سنكون حيث ينبغي أن نكون». وينزع الوهم السيادي عن السياسة الداخلية، في ظل التحاصص الأمني أولاً وانتشار الأمن الذاتي ثانيًا وعجز الدولة عن احتكار أدوات العنف بكافة أشكالها. حدث ولا حرج عن الوهم السيادي في السياسات الخارجية للبنان والتي تتعدد بتعدد الفرق السياسية. لا تعد ولا تحصى الحوادث التي عبر فيها وزير خارجية لبنان، في حكومات متعاقبة عن «رأي» الجهة التي أوصلته للمنصب وليس عن موقف الدولة التي يمثلها، وهو ما تسبب للبنان بإحراجات واشتباكات خطيرة. أما المالية فهي تتنافس مع الدفاع في حجم الانتهاك اللاحق بسيادتها، في ظل «خصخصة» المال العام والالتفاف على الضرائب وعصابات التهرب الجمركي واحتلال أجزاء من معابر وموانئ لبنان وتحويلها إلى «مناطق حرة خاصة» تحميها قوى الأمر الواقع، من مرفأ بيروت إلى مطارها.
لست راغبًا في محاكمة هذا الواقع بمعايير مترفة، ومترفعة عن واقع لبنان اليوم، وإن كنت غير الملزم «بالتطبيع» مع هذا الواقع والقفز فوقه كأن شيئا لم يكن. وسيدعوني قارئ ما لأن أقل عليه «بمواعظ» يعرفها ويعرف أنها ستظل «مواعظ» حسنة لا تقدم ولا تؤخر.
حسنًا! أنا موافق. ليكن للقوى السياسية التلهي بالصراع على الوزارات السيادية ضمن إطار اللاسيادة العام الذي يحكم لبنان.
ما أريده بسيط. تحويل وزارة الثقافة إلى وزارة سيادية. أي البدء بالتعامل معها كوزارة مهمة، وإنتاج تحالف وطني مدني رأسمالي حولها لتجاوز عقبة الموازنة الضعيفة لأهم وزارات لبنان… وهذا ليس مبالغة.
قناعتي أننا البعد العميق للصراع القائم في لبنان، في حلقته الراهنة، هو صراع ثقافي، وهو ما يدركه «حزب الله» جيدًا ويعمل وفق شروطه، بجهد «إحلالي» غير بسيط، أي إحلال ثقافة مكان أخرى.
الثقافة هي الفيصل بين لبنانين، وهي الوحيدة القادرة على الفرز بين المشاريع السياسية وغير السياسية على قاعدة ما ومن ينتمي إلى لبنان وما ومن لا ينتمي إليه.
سأتجاوز النقاش النظري حول الثقافة وتعريفها. هي بالنسبة لي ببساطة كل النتاج الفني والفكري وكل الأسماء والمشاريع التي أعطت للبنان هويته الجامعة والعابرة للفرز السياسي والمذهبي والمناطقي. من يختلف على إرث التشكيليين بول غيراغوسيان وصليبا الدويهي وحسين ماضي وعارف الريس ونبيل نحاس وصولاً إلى جيل أيمن وأسامة بعلبكي وتغريد دارغوث! من يختلف على الإرث وعلى موقعه في تشكيل هوية لبنانية تعددية؛ من فيروز وصباح إلى نانسي عجرم ومن حسن علاء الدين (شوشو) إلى نضال الأشقر وروجيه عساف ويحيى جابر. من هيرتا غرغرور التي أسست أول استوديو في لبنان سنة 1933. مرورًا باستوديو بعلبك، الذي شكل منعطفًا في صناعة السينما اللبنانية والعربية، ولاحقًا جيل مارون بغدادي وصولاً إلى ندين لبكي. لا تتوقف هنا. ادخل غابة صناع المطاعم والأزياء ومخترعي الفرح والحياة. هذا لبنان كبير وكبير جدًا، وهو تاريخ يصارع النسيان وحاضر يصارع الاستمرار.
لفتتني قبل فترة ملاحظة لكاتب أميركي حول «متحف الهولوكوست» في واشنطن، وموقع هذه الجريمة العظمى في وعي الأميركيين على الرغم من أن مسرحها كان أوروبا. ملاحظته أن المتحف (والثقافة عامة) ماكينة هائلة في تشكيل الوعي والهوية وحركة المدن ومصيرها!
المكتبة البريطانية تستضيف برنامجًا مثيرًا هو عبارة عن متحف للتاريخ الشفوي الذي يروي قصص من صنعوا لندن، من عمال نظافة وسكرتيرات تركوا بصماتهم بطرق خاصة، إلى كبار الصناعيين والأطباء ومديري صالات العرض وتجار التحف والسجاد! دفاع المدينة عن ذاكرتها في مواجهة طغيان السياسة. هذه نتيجة حاسمة وأكيدة، بصرف النظر إن كانت في أساس الدوافع لهذا المشروع أم لم تكن. بيروت تمتلك ما ينبغي الدفاع عنه، واللبنانيون بينهم من يدرك استراتيجية هذه المعركة بغريزته قبل كل شيء. حين افتتح متحف سرسق قبل نحو عام بعد إقفاله عام 2008 لترميم وتأهيل واجهته وبعض الداخل، شكل الافتتاح رسالة أمل ومصدر طاقة جذبت حولها مهتمين وغير مهتمين بالفن، لأنه كان إعلانًا أن المدينة تريد الحياة.
وحين افتتح طوني سلامة وصالح بركات صالتيهما الجبارتين للفنون، تناقل اللبنانيون التقارير المحلية والدولية عن «الحدثين»، عبر مواقع التواصل الاجتماعي كمن يعلنون الانتماء إلى لبنان يريدون التماهي معه، في ذروة تعرضهم للإهانة بسبب أزمة النفايات.
خذوا «السياديات» وليأخذ اللبنانيون وزارة الثقافة ويدافعوا عنها كأنها حصنهم الأخير! بيروت تستحق.