فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

مسارات خطرة للتدخل في سوريا

مما لا شك فيه أن الأزمة في سوريا بدأت أزمة داخلية، كان أساسها ثورة السوريين ضد نظامهم الاستبدادي بعد أن صادر حقوق السوريين واستعبدهم، ورسم ملامح حياتهم ومستقبلهم وفق مصالحه، التي لا تمثل في الأساس سوى مصلحة أقلية، اتخذت لها ملامح عائلية وطائفية ومناطقية، وطبقية، بل إن النظام استطاع دمج كل تلك الاعتبارات في بنية واحدة، ولدت هذا الشكل من النظام الأمني العسكري الذي لم يتأخر في كل تاريخه عن الانخراط في عنف شامل ضد السوريين، حيث تطلب الأمر ذلك قبل أن يبلغ هذا العنف حده الوحشي على نحو ما يظهر اليوم.
لقد واجه المحيط الإقليمي الأزمة السورية باعتبارها صراعا بين السوريين ونظامهم بقليل من الاهتمام وكثير من الحذر، والسبب الرئيس في ذلك عاملان؛ أولهما حذر المحيط الإقليمي من رد فعل النظام في حال اتخاذ موقف مؤيد للحركة الشعبية ومطالبها في التغيير، وقد اعتادت الدول المحيطة على سياسة انتقامية يطبقها النظام ضد أي دولة، تعارض سياسته أو تؤيد تحركات معارضيه من خلال فتح ملفات جاهزة وتدخلات أمنية وسياسية ذات طبيعة انتقامية. والأمر الثاني، رغبة الدول المحيطة في الابتعاد عن صراعات دول الجوار، والانتباه إلى مشكلاتها الداخلية، ومعظم الدول المجاورة لسوريا والقريبة منها لديها مشكلات سياسية واقتصادية وأمنية، تدفعها للابتعاد عن التدخل في شؤون بلد لا تأمن نتائج تدخلها فيه.
لقد بدت السياسة الإقليمية حيال الأزمة السورية في الأشهر الأولى من الثورة هادئة وحذرة كما ظهر الموقفان العراقي والأردني، وبعضها طرح مبادرات وعلاجات للازمة على نحو ما حاولت تركيا، في حين اتخذ لبنان موقفه الشهير «النأي بالنفس عن الأزمة»، بل إن دولة حليفة للنظام السوري مثل إيران، سعت للظهور بموقف المحايد من الأزمة السورية.
غير أنه وإزاء دخول الصراع بوابة الصراع العسكري مع إصرار النظام على الحل الأمني – العسكري، أخذت مواقف الدول المحيطة والقريبة من سوريا تتغير وتتبدل، وكان الأبرز في هذا التبدل وقوف إيران بكل قوتها إلى جانب النظام، وزادت على ما سبق تقديم دعم سياسي واقتصادي، وتجاوزتهما إلى دعم عسكري، شمل في البداية معونات عسكرية وخبراء، قبل أن تضغط على تنظيمات موالية لدعم النظام بالمقاتلين على نحو ما فعل حزب الله اللبناني، ثم ميليشيات أبو الفضل العباس العراقية، اللذان يشاركان في الحرب على السوريين، ولا سيما في حمص وريف دمشق.
وتوازى مع توسع التدخل الإيراني في الأزمة السورية، اتخاذ تركيا موقفا هو الأقوى إقليميا في معارضة سياسة النظام السوري، وكانت مؤشراته تقديم دعم سياسي ولوجيستي للمعارضة، وجعل تركيا مقرا رئيسا للمعارضة وبوابة عبور رئيسة للأسلحة والذخائر إلى الداخل السوري، إضافة إلى تحملها عبء مرور وإقامة أكثر من مليون سوري أغلبهم في مخيمات ترعاها الحكومة التركية وسط قلة من المساعدات الدولية.
ولم يكن التبدل في تدخلات الجوار في الأزمة السورية مقتصرا على الإيرانيين والأتراك، إنما شمل دولا أخرى، وإن كان بأشكال مختلفة على نحو ما طرأ على الموقفين اللبناني والعراقي؛ فالأول رغم الإبقاء على شعار «النأي بالنفس» ناصر بالمحصلة سياسة النظام في دمشق في المستويين العربي والدولي من خلال الامتناع عن اتخاذ موقف يدين تلك السياسة، بل هو ناصرها أحيانا بصورة مباشرة، وذهب إلى الأبعد في عدم ممانعة التدخل العسكري لحزب الله في سوريا، وهو شريك رئيس في الحكومة والبرلمان اللبناني، كما رسمت السلطات اللبنانية سياسة أمنية تناهض المعارضة وتتعاون مع السلطات السورية في مجالات عدة بما فيها اعتقال وتسليم معارضين للنظام.
واتخذ التبدل العراقي شكلا مختلفا، يكرس سياسة الدولة العميقة، التي تمثلها سلطة المالكي. ففي الظاهر ظلت ادعاءات الحياد معلنة، أما في الباطن فقد قدمت السلطات العراقية دعما مميزا للنظام السوري وسياسته في مواجهة الثورة، شمل تقديم مساعدات مالية ونفطية كبيرة، وتسهيلات لتنظيم ومرور الميليشيات العراقية وأسلحتها إلى سوريا للقتال إلى جانب النظام وتأمين خطوط إمدادها، وترافق هذا الخط من السياسة العراقية مع خط حصار أي نشاط يدعم المعارضة السورية في العراق، ودفع وحدات من الجيش العراقي إلى الحدود لمنع المرور عبرها في الاتجاهين، وإغلاق الحدود العراقية بوجه الهاربين السوريين من عنف النظام وإرهابه. وتشير معلومات محصورة التداول إلى خط ثالث في السياسة العراقية وهو نشاط استخباري يخدم سياسات النظام السوري ونظريته في قول إن المعارضة السورية جماعات إرهابية أصولية ترتبط بـ«القاعدة»، وفي هذا السياق يمكن رؤية عملية تهريب مئات من قيادات وكوادر تنظيم القاعدة من سجن أبو غريب الصيف الماضي، وفتح باب تمرير أسلحة وذخائر وأموال عراقية إلى تنظيمات ترتبط بـ«القاعدة» في إطار عمل استخباري، تقول المعلومات، إنه يجري بالتنسيق مع أجهزة تابعة للنظامين السوري والإيراني.
والتدخلات في الأزمة السورية وغيرها، إنما تقوم أساسا على مبدأ الحفاظ على مصالح القوى المتدخلة، وتعزيز حضورها وتأثيرها لدى أطراف الأزمة وفي البيئة العامة، غير أن هذه القاعدة تطورت في واقع الأزمة وتداعياتها، بحيث صار للتدخلات أهداف تتجاوز الواقع السوري إلى محيطه الإقليمي والدولي، وعلى سبيل المثال، فإن تدخل إيران وأنصارها في الأزمة السورية تعدى مجال حفاظها على النظام إلى استخدام الأزمة السورية ورقة في الملف النووي الإيراني، وهو ملف له أبعاد إقليمية ودولية، وفي مثال آخر، فقد صار للتدخل التركي في الأزمة السورية أبعاد تركية داخلية وإقليمية ودولية، منها أن تركيا معنية بالأزمة السورية في ثلاثة أمور داخلية؛ أولها مواجهة التطرف الديني الذي يمثله نمو نفوذ «القاعدة» من دولة العراق والشام وجبهة النصرة، والثانية عودة تطرف حزب العمال الكردستاني (P.K.K) وأنصاره السوريين من «P.Y.D»، والثالث مواجهة التمايز الذي يمثله موقف بعض العلويين الأتراك في تقاربهم مع سياسات النظام في الأزمة السورية، وبالتأكيد فإن لهذه الأمور الداخلية تأثيرات إقليمية ودولية في السياسة التركية.
إن التدخلات الإقليمية في الأزمة السورية وتطوراتها، أدت وتؤدي إلى تعقيدات في الأزمة، الأمر الذي يتطلب السعي نحو ثلاث خطوات إقليمية ودولية، أولها تأكيد الطبيعة الداخلية للأزمة في سوريا باعتبارها أزمة بين النظام والشعب، وأنها ينبغي علاجها على هذا الأساس، والثانية وقف التدخلات الإقليمية أو الحد منها على الأقل، والثالثة السعي لحل الأزمة في سوريا سلميا وبصورة عاجلة، وما لم يحدث ذلك فإن الأمور تتجه نحو استمرار الأزمة وتشعبها، مما يجعل شعوب المنطقة، وخصوصا السوريين، تتحمل مزيدا من الأعباء وفواتير الدم والدمار.