محمد مصطفى أبو شامة
كاتب وصحافي مصري
TT

وطن يبحث عن «دبوس»

عندما غنت «ثومة» من كلمات عبد الله الفيصل رائعتها «ثورة الشك»، لم تكن علوم «التشكيك» و«التفكيك» و«التلكيك»، قد حققت مبتغاها في السيطرة على العقول، ولم نكن وصلنا إلى عصر اللامعقول، رغم أن الأمير الشاعر صاحب القصيدة قد بشّر قبل ما يربو على نصف قرن بوصولنا إلى «بئر الخيانة» بعد اشتعال القلوب وحماس المشاعر: (يَقُولُ النَّاسُ إنَّكَ خُنْتَ عَهْدِي وَلَمْ تَحْفَظْ هوايَ وَلَمْ تَصُنِّي** وَأنْتَ مُنَايَ أَجْمَعُهَا مَشَتْ بِيِ إلَيْكَ خُطَى الشَّبَابِ المُطْمَئِنِّ).
وعن الشك و«سنينه» تدور أحاديث مقاهينا هذه الأيام، حيث جلسات «العصاري» مع الشاي «أبو نعناع» وصوت المذياع الذي يعلن من جديد عن ثورة «الست»: (عَلَى أَنِّي أُغَالِطُ فِيكَ سَمْعِي وَتُبْصِرُ فِيكَ غَيْرَ الشَّكِّ عَيْنِي** وَمَا أَنَا بِالمُصَدِّقِ فِيكَ قَوْلاً وَلَكِنِّي شَقِيتُ بِحُسْنِ ظَنِّي).
عندما كنا صغارًا تعلمنا أن تحريض العقل على التفكير، هو أول عتبات التنوير، وكان مرشدنا عبارة ديكارت الشهيرة «أنا أشك.. إذن أنا موجود» أو «الكوجيتو الديكارتي»، التي أدركنا صوابها في الصبا، وعرفنا صحة العبارة: «أنا أفكر...»، وبفعل هذا الفهم المتأخر اندمج المعنى في ثقافتنا، وأصبح الشك مرادفًا تحفيزيًا للتفكير.
المؤسف أن في عصر انحدار الأخبار وصعود أبخرة السحب الكلامية، غيبت العقول، وغاب بعض المهنيين، وسطع نجم «دواجن» المهن.. و«زاد الطين بلة» وريشًا، أن خرج علينا «ديوك» يكتبون ويخطبون ويتبوأون، وهم «لا ديوك ولا يعرفون».
توهموا أن «العرف» الأحمر يجلب الحظوة والاحترام، وأن وجودهم كحراس عند بوابة، ينفحهم المزايا، ويجلب لهم العطايا، فانتصبوا يفتشون في الضمائر والأفكار.. يعبثون تحت الملابس بالمنخار.. تنتشي قامتهم بـ«تفعيص» المعاني، وحذف الجمل وقتل الكلام.. يتلذذون بدماء أشعارك، ويقفون على جثة القصيدة، يلقون عليك وعلينا من تخرصاتهم، نصائح بليدة، ويتلون «قراراتهم» الجديدة، ويغرقون في أوهامهم السعيدة.
أغلق نادل المقهى الملعون مذياعه، واللعاب يتساقط من شفتيه في سعادة وبلاهة، فقد استطاع أخيرًا أن يخرس كوكب الشرق.. أخرسها هذا الجاهل الأحمق، قبل أن تختم ثورتها وتطرح سؤالها الأخير (أَجِبْنِي إِذْ سَأَلْتُكَ: هَلْ صَحِيحٌ حَدِيثُ النَّاسِ؟).
ولم يكتف بذلك، بل أدار النادل التلفاز على قناة أخرى ليصرخ فينا مغنيها ويتقيأ كلماته وهو «يغشلق» صوته كخنجر مسموم يطعن وطنًا.. وطنًا كنا نبحث عن «دبوس صدئ» لتحفيزه بـ«الشك» ليشعر .. لكننا لم نجده !!!
ورحلنا يطاردنا صدى صوت «أم كلثوم» بين القبور: (خُنْتَ؟ أَلَمْ تَخُنِّي؟).