النظرة إلى اضطرابات أو أمراض أعضاء معينة في الجسم يجدر أن تنال عناية أكبر للاهتمام بتلك الأمراض والاضطرابات ومعالجتها. وأحد الدواعي المفيدة في إقناع المريض بمعالجة مرضه وإقناع السليم بالاهتمام بصحته، هو توضيح التداعيات والمضاعفات المحتملة لدى الإصابة بمرض ما.
وما من شك أن شكوى عضو ما في الجسم من مرض أو اضطراب وظيفي يُؤدي إلى تداعي وتنبه بقية أعضاء الجسم إلى حصول خلل ما في عمل ذلك العضو، وأحد أسباب ذلك الاهتمام والتداعي من أعضاء الجسم الأخرى ربما هو احتمال تأثر عمل تلك الأعضاء الأخرى بمرض العضو الأول، مما يدفعها لحماية نفسها بالعمل كجسم متكامل لتسهيل زوال مرض العضو الأول ذلك. وفي هذا الشأن لا يزال علم الطب يتلمس طريقه لفهم ما يُعرف بـ«تداعيات» و«مُضاعفات» الأمراض التي تصيب أعضاء دون أخرى في الجسم، وكثيرًا ما نتعرّف، وبطريق المصادفة غير المقصودة، على بعض من التداعيات والمضاعفات المثيرة للدهشة لأول وهلة، ولكن يتضح لاحقًا أنها منطقية وطبيعية ومتوقعه لو كنّا فهمنا بداية، كيفية عمل أعضاء الجسم وآلية حصول أمراض أعضائه على وجه الدقة.
وللتقريب، دعونا نأخذ مثالاً لأحد الاضطرابات الوظيفية ذات السبب العضوي وهو تطابق الأسنان فيما بين أسنان الفك العلوي وأسنان الفك السفلي. ومعلوم أن عمل الأسنان بكفاءة في عملية المضغ وفي عمليات أخرى كالكلام والراحة فيما بين الفكين وغيرها، يتطلب أن تكون هناك وضعية مريحة في تطابق التقاء أسنان الفك العلوي مع أسنان الفك السفلي وذلك حال كل من حركة وسكون الفكين وفتح وإغلاق الفم. وإضافة إلى الاضطرابات المرضية في عدد وبنية وشكل وحجم ولون ونمو وتلف وزوال الأسنان، هناك اضطرابات أخرى في هيئة وشكل توازن تطابق الأسنان. ولذا فإن بمقابل «إطباق الأسنان» Dental Occlusion الطبيعي، ثمة حالة «سوء إطباق الأسنان» Dental Malocclusion، وهي الحالات التي يكون فيها إطباق أسنان الفك العلوي مع أسنان الفك السفلي في غير الموضع الطبيعي، وبشكل وهيئة غير صحيحة، بمعنى فقدان هيئة التماس الطبيعي بين أسنان الفك العلوي مع أسنان الفك السفلي حال إطباق الفكين.
ولدى أطباء الأسنان تقسيمات لأنواع وأشكال اضطرابات طريقة إطباق الأسنان. وإضافة إلى تأثيرات اضطرابات سوء إطباق الأسنان على النواحي الجمالية لشكل الوجه ولشكل حركة الفكين، هناك تأثيرات أخرى في ارتفاع احتمالات الإصابة بتسويس الأسنان واضطرابات الضغط على مفصل الفك واضطرابات عملية المضغ واضطرابات النطق.
وخلال السنوات الماضية ثمة اهتمام طبي متزايد في تعديل اضطرابات سوء إطباق الأسنان بغية إعطاء شكل جمالي أفضل للفم والأسنان والوجه، ولتخفيف آلام مفصل الفك وتعديل أي تأثيرات لذلك السوء في إطباق الأسنان على النطق والفجوات بين الأسنان وتسويس الأسنان وغيرها. ولكن لا تزال القصة غير مكتملة لدى طب الأسنان حول مدى هذه التأثيرات الصحية المرافقة أو الناجمة عن سوء تطابق الأسنان.
وكان الباحثون من جامعة بيليستوك في بولندا قد نشروا ضمن عدد أبريل (نيسان) - يونيو (حزيران) من مجلة Journal Of Clinical Densitometry في عام 2007، ما اعتبروه أول دراسة تقدم معلومات طبية حول علاقة سوء تطابق الأسنان بدرجة كثافة احتواء عظام الجسم على الكمية الطبيعية من المعادن Bone Mineral Density لدى المراهقين، ولاحظوا أن وجود حالة سوء تطابق الأسنان مرتبط بارتفاع احتمالات حصول انخفاض في درجة كثافة احتواء عظم الجسم على المعدلات الطبيعية للمعادن في أجزاء مختلفة من الهيكل العظمي، وحينها قالوا إن آلية سبب هذا الضعف في المكونات المعدنية لعظام الجسم غير معروفة لديهم.
وكذلك قد لا يتوقع أحدنا أن ثمة علاقة بين سوء تطابق الأسنان واضطرابات ضبط توازن ووضعية الجسم، وكان الباحثون من جامعة برشلونة بإسبانيا بالتعاون مع الباحثين من جامعة إنسبرك في النمسا قد نشروا ضمن عدد مارس (آذار) الماضي من مجلة رسائل علوم الأعصاب Neuroscience Letters، وفي عام 2015 من مجلة ضبط الحركة Motor Control، نتائج دراساتهم تأثيرات سوء إطباق الأسنان على اضطرابات توازن ووضعية الجسم Postural And Balance Control. وأفاد الباحثون في مقدمة دراستهم بأن العلاقة بين إطباق الأسنان وضبط التوازن لا تزال غير واضحة، مما دفعهم لدراسة الأمر، وخلصوا إلى أن توازن الجسم يكون بشكل واضح أفضل عند عدم وجود سوء تطابق في الأسنان، وأن تأثيرات سوء تطابق الأسنان على اضطراب التوازن تزداد حال زيادة الإجهاد البدني.
وعلقت الدكتورة سونيا جوليا - سانشيز، الباحث الرئيسي في الدراسة من جامعة برشلونة، بالقول: «حينما يكون هناك سوء تطابق في الأسنان فإنه يُصنف طبيًا وفق معايير علمية ثابتة، وما هو مهم في الدراسة أن سوء تطابق الأسنان مرتبط بتغيرات حركية وفسيولوجية»، وأفادت بأن الدراستين قدمتا معلومات توضح أن السيطرة على توازن وضعية الجسم تتحسن في حالات حركة وثبات الجسم حينما يتم تصحيح سوء إطباق الأسنان عبر وضع الفكين في الوضعية المحايدة الطبيعية. وأضاف الباحثون أنه ربما لا تتضح هذه العلاقة في ضبط التوازن حال السكون أو في الحياة اليومية المستقرة، ولكن عند وجود اضطرابات أخرى تؤثر على التوازن، كالسمنة، فإن الأمر قد يكون أوضح في ضعف ضبط توازن الجسم، مما يرفع من احتمالات الترنح والسقوط. كما أن هذا الارتباط بين سوء تطابق الأسنان والتوازن قد يلعب دورًا حاسمًا في أداء الرياضيين ووقايتهم من إصابات الالتواء والكسور الناجمة عن ضعف ضبط التوازن عند زيادة الشعور بالإعياء والتعب وانخفاض قدرات التحكم على حفظ توازن الجسم. ولذا قالت جوليا - سانشيز: «لذلك فإنه سيكون من المفيد النظر إلى تصحيح سوء تطابق الأسنان لتحسين السيطرة على توازن الجسم والوقاية من السقوط».
* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]