د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

6 ملاعق سكر صغيرة

بشكل لم يسبق له مثيل عبر تاريخ البشر، أمسى السكر العنصر الأساسي والمادة الغذائية الأكثر وجودًا وإضافة، في مكونات الأطعمة والمشروبات التي يتناولها الإنسان خلال غذائه اليومي، وأصبح بهذا الواقع، مع الماء، مغردًا خارج السرب مقارنة بالملح والبهارات والأرز والقمح والشاي والقهوة ومواد غذائية كثيرة. وهذا الانتشار العالمي الواسع للسكر هو شيء طارئ وحديث، أسوة بانتشار الزيوت النباتية المهدرجة والدقيق الأبيض للقمح والأطعمة المقلية والمأكولات السريعة والمشروبات الغازية وغيرها من أنواع المشروبات والأطعمة التي دخلت حياة البشر وانتشرت بشكل سريع وواسع النطاق.
وربما، ونتيجة لانتشار تناول السكر وانتشار تناول الأطعمة المُعدة من الدقيق الأبيض للقمح وانتشار طريقة الطهي بالقلي في الزيوت النباتية المُهدرجة وتفشي اللجوء إلى تناول المأكولات السريعة، مع تدني الحركة البدنية وكثرة الجلوس، قد يكمن أحد أهم أسباب الانتشار العالمي غير المسبوق في أمراض السمنة والسكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض شرايين القلب وغيرها.
وفي السابق كان العسل والفواكه والدبس المستخلص من الثمار الحلوة إضافة إلى كميات ضئيلة نسبيًا من بلورات السكريات المستخلصة من نباتات أخرى، هي مصادر السكر في غذاء الإنسان، ولكن اليوم يُنتج السكر على نطاق واسع من مصادر نباتية شتى وبطرق معقدة وبكميات تجارية عالية، وهو ما سهّل توفر السكر من نباتات قصب السكر وجذور الشمندر السكري. والطريف في الأمر، وهو ما تذكره المصادر التاريخية، أن إنتاج بلورات السكر الجاف بدأ بالأصل من الهند وانتقل إلى الصين ومن ثمّ إلى الشرق الأوسط ومنه إلى أوروبا وبقية أرجاء العالم، ومع اكتشاف الأميركيتين، توفرت أراض مناسبة لزراعة قصب السكر وبدأ الإنتاج الواسع لهذه المادة الغذائية المرغوبة.
ويُعتبر السكر لدى الأوساط الطبية اليوم، أحد العناصر الغذائية المُستهدفة بـ«ترشيد الاستهلاك» اليومي، سواءً من قبل الصغار أو الكبار في السن. وإن كانت الجهود الطبية التثقيفية تتجه بشيء من الاهتمام الأكبر نحو ضبط كميات السكر التي يتناولها الأطفال على وجه الخصوص، لاعتبارات تتعلق بتأثيرات تناول السكر على مستقبل الأطفال الصحي وعلى واقع مستوى اضطرابات النشاط في حركتهم وسلوكياتهم. وتعتبر جمعية القلب الأميركية، التي هي أحد أهم الهيئات الطبية العالمية المعنية بصحة القلب ووقايته من عوامل خطورة الإصابة بأمراضه، أن موضوع تناول السكر أحد المواضيع الطبية الحيوية في تأثيراته الصحية المتشعبة.
وضمن عدد 22 أغسطس (آب) من مجلة «الدورة الدموية» Circulation، لسان حال جمعية القلب الأميركية، نشرت الجمعية بيانها الخاص بإرشادات تناول السكر. وأفادت في إرشاداتها الحديثة أن من الضروري بقاء استهلاك الأطفال والمراهقين للسكر في مستوى كمية أقل من ست ملاعق شاي صغيرة في اليوم الواحد. ومعلوم أن كمية ما يملأ ملعقة شاي صغيرة من السكر هي 4 غرامات سكر، وأن ما يملأ ملعقة طعام من السكر هو 12 غراما، وبالعموم، ما يملأ ملعقة طعام هو ثلاثة أضعاف ما يملأ معلقة شاي. ومعلوم أيضًا أن كل غرام من السكر يحتوي على نحو 4.2 (أربعة فاصلة اثنين) كالوري من السعرات الحرارية. أي أن الجمعية تحدد نصيحتها بأن لا تتجاوز كمية السكر التي يتناولها الطفل أو المراهق، أي من عمر 2 سنة إلى عمر 18 سنة، كمية 24 غراما في اليوم، أي نحو 100 كالوري. وأضافت أن السكريات المُضافة تشمل أي نوع من السكريات التي تُضاف إلى أي نوع من المأكولات والمشروبات، مثل بلورات سكر المائدة Table Sugar وسكر الفواكه Fructose والعسل وشراب الذرة السكري Corn Syrup وشراب القيقب السكري Maple Syrup وغيرها. وعلقت الدكتورة مريام فوس، طبيبة الأطفال وأستاذة علم التغذية الإكلينيكية في كلية الطب بجامعة إيموري بأتلانتا ورئيسة فريق وضع هذه الإرشادات الحديثة لجمعية القلب الأميركية بالنسبة للسكر، بالقول: «الفئة المستهدفة بإرشاداتنا الحديثة هي جميع الأطفال والمراهقين التي تتراوح أعمارهم ما بين سنتين و18 سنة، وهي نصيحة واحدة كي نجعل الأمر أبسط وأسهل عليهم وعلى الوالدين وعلى المتحدثين عن توجيهات الصحة العامة»، وأضافت: «بالنسبة لمعظم الأطفال، فإن عدم تجاوز تناول كمية ما يملأ ست ملاعق شاي صغيرة من السكريات المُضافة إلى أي أنواع من الأطعمة أو المشروبات التي يتناولونها أو التي يتناولونها على هيئة سكريات وحلويات، هو هدف سليم وصحيح ويجدر أن يكون قابلاً للتطبيق، وهذه الإرشادات الحديثة تهدف بالمحصلة إلى تحسين تغذية الأطفال بشكل عام وتحسين مستوى صحتهم العام».
وكان فريق وضع تحديث إرشادات الجمعية الأميركية للقلب قد راجع كافة ما هو متوفر من أدلة علمية ودراسات وبحوث حول تناول الأطفال والمراهقين للسكريات وتأثيرات ذلك الصحية، وأفاد بيان الجمعية أيضًا أن الأطفال الذين تقل أعمارهم عن عمر سنتين عليهم ألا يتناولوا مطلقًا الأطعمة والمشروبات التي يُضاف إليها السكر، وهي رسالة موجهة إلى الأمهات والآباء حصريًا لأن الأطفال في هذا العمر يستجيبون لما يُقدم لهم. واستطرد البيان بالقول إن التناول الاستهلاكي المتكرر والمنتظم للأطعمة والمشروبات السكرية يُمكن أن يُؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم والسمنة ومرض السكري، وهي كلها دون استثناء عوامل خطورة ترفع من احتمالات الإصابة بأمراض القلب. وقالت الدكتورة فوس: «إن الأطفال الذين يتناولون أطعمة مُحمّلة بالسكريات المُضافة يميلون إلى تناول كميات أقل من الأطعمة الصحية مثل الخضراوات والفواكه الطازجة ومشتقات الألبان قليلة الدسم والأطعمة المُعدة من دقيق القمح الكامل وغير المقشّر، ولذا بالتالي يتسبب أيضًا تناولهم للسكريات بتقليل تناولهم الأطعمة الصحية الجيدة والمفيدة لقلوبهم، ووفق الإحصائيات الحالية فإن الأطفال بالعموم في الولايات المتحدة يتناولون حاليًا ثلاثة أضعاف الكمية المنصوح بها».
والواقع أن قضية السكر، وفق المعايير الطبية ووفق تبعات ذلك على المستوى الصحي العالمي، هي أحد القضايا المهمة ذات التأثيرات الاقتصادية والصحية والاجتماعية المُكلفة ماديًا وصحيًا، والنقاش المنزلي حولها بين الوالدين ومع الأطفال يكتسب أهمية حياتية لا تقل عن كثير من القضايا التربوية والتعليمية والأسرية الأخرى، والموضوع فيها واضح: عدم تجاوز كمية ست ملاعق صغيرة من السكر لحياة أفضل.

* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]