أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

قرار الاعتزال

منذ ربيع عام 2011، يطاردني السؤال بإلحاح من أغلب من يعرفونني.. أتهرب مرات بابتسامة غامضة.. أحيانا بإجابة مقتضبة، وقلة من يعرفون القصة كاملة؛ لكن حتى هؤلاء يعاودون السؤال: «لماذا اعتزلت مهنة الطب»، لعلهم يحصلون على مزيد من التفاصيل.
قد تكون القصة برمتها «شخصية للغاية»، لكن لمَ لا أستغل طبيعة المدونة «المرنة» لكي أسردها، وربما خرج البعض من تفاصيلها بما ينفعه في حياته الشخصية.
تتوالى الأسئلة الفرعية المبنية على أداة «هل»: «هل هو الفشل؟».. «هل هي المعوقات؟».. «هل واجهتك مشكلات؟».. «هل لم تحب المهنة؟».
أرد على الأسئلة المتوالية - وخصوصا الأخير منها - بالعودة إلى البداية.. في ليلة من ربيع عام 1998 أتذكر تفاصيلها بكل شفافية، على الرغم من ضعف ذاكرتي العام.
كنت قد أنهيت حديثا فترة التدريب العملي التي تلي التخرج في الجامعة.. ويجب علي أن أحدد فرعا علميا للتخصص. مر نحو شهر من التفكير العشوائي وأنا متردد، ثم كانت تلك الليلة حين أحضرت ورقة وقلما (قبل تغول عصر الـ«لاب توب» والـ«سمارت فون»)، وخلال 10 دقائق حسمت الأمر.
كتبت على أحد أطراف الورقة كل ما أعرفه وخطر على بالي من تخصصات.. ثم بدأت أضع علامات أستبعد بها ما لا يتفق مع ميولي أو مهاراتي الشخصية؛ هذا يحتاج إلى صبر لا أتميز به، وذاك يتطلب ذاكرة جيدة، وآخر لا يناسب طبيعتي التي تميل إلى الحركة الدائبة.. بعد لحظات اكتشفت أن ما تبقى في الورقة هي فقط التخصصات الجراحية، وأنني استبعدت كل العلوم الباطنية، لأني أفضل العلوم المهارية، التي غالبا ما تحقق نتائج فورية في العلاج.
ترددت مرة أخرى بين أربعة أو خمسة من فروع الجراحة، قبل أن يهبط علي الوحي بصورة ذهنية أنهت أي تردد.. فمن بين كل المرضى الذين يرتادون غرف العمليات قاطبة، مريض واحد يدخل إلى هناك ويخرج وهو سعيد وأهله سعداء.. يدخل فردا، فيخرج مصاحبا بروح أخرى ترافقه.. وكان قراري النهائي المبهج على المستوى الشخصي؛ وبدأت رحلة طب أمراض النساء والتوليد.
وطوال 13 سنة.. عشقت كل لحظة ساعدت فيها مريضا أو أسهمت في معجزة خروج روح جديدة إلى الحياة، لكن منغصات لا علاقة لها بالطبابة أرقت هذه السنوات.. من بيروقراطية في المشافي الحكومية المصرية، أو فقر الإمكانات، إلى إهدار لحقوق وآدمية البشر، وصولا إلى تعامل بعض المستشفيات الخاصة معهم من منطلق مبدأ «الزبون» الذي يصلح ابتزازه؛ وليس صاحب المرض الذي يجب أن يُخدم.
في عيادتي الخاصة حاولت أن أحافظ على ما أراه من مبادئ.. أن المريض له حقوق لا تفاوض عليها، وأنه ليس أبدا «مصدرا» للربح. أقول إنني حاولت قدر المستطاع.. وحين ازدادت المسؤوليات على كاهلي وصرت أبا، واستمر انهيار ما اعتمدت عليه من مدخرات امتلكتها من خارج مهنة رأيتها تسمو على التربح، وجدتني أمام مفترق طرق للاختيار بين التساهل في مبادئي الخاصة جدا أو الانصراف كلية عن الأمر.
لا أعني هنا أي انتقاد لملايين الأطباء الزملاء.. فالطب في نهاية الأمر مهنة كغيرها.. عمل في مقابل مادي.. لكنها أزمتي الشخصية؛ وربما أكون حالما أكثر مما ينبغي.. ولكنني في النهاية فضلت الاعتزال، على الرغم من صعوبة القرار، والاتجاه إلى مهنة أخرى أعشقها أيضا؛ بدلا من أن أخون أحلامي وأوهامي.
قراري أدهش الجميع؛ إذ كان الزملاء والأساتذة والمرضى يرونني طبيبا جيدا، حسبما يقولون، لكن أن تترك ما تحب وأنت لا تزال تحبه، أفضل كثيرا من أن يتركك هو بعد أن تفشل في أدائه نتيجة تحول الأمر إلى كره وبغضاء متبادلة.
خلاصة الأمر: حاول أن تعمل ما تحب وأن تحب دائما ما تعمل.. والوقت غالبا ما يسمح بتغيير المسار. وكما يقول الإنجليز: «It's never too late».. «الوقت ليس متأخر أبدا لفعل أي شيء».
ملحوظة زائدة؛ يسألني البعض في خبث عما إذا كان من الممكن أن أغير مسار حياتي مجددا.. أرد بخبث أكبر أن المرة الأولى تكون دائما أصعب في أي شيء.. ولأن الإنسان يحيا مرة واحدة فقط؛ فليعش حياته كما يرى، محافظا على تناغمه النفسي قبل كل شيء.