فرانسيس ويلكنسون
TT

في محاربتها ترامب.. كلينتون قد تجد رؤيتها الخاصة

يمكنك أن تقول ما تشاء حول خطاب دونالد ترامب الشرير، خلال المؤتمر الوطني الجمهوري العام، لكن تبقى الحقيقة أنه حقق واحدًا من أكبر أهدافه: أصبح ترامب الآن هو من يحمل راية «التغيير» في هذه الانتخابات.
لقد أكد ترامب على ترشحه، ليس فقط باعتباره يطرح رؤية جديدة مختلفة عن المشهد السياسي الراهن، وإنما كذلك عن الخطاب الرئاسي الأميركي المألوف، والأعراف الديمقراطية التي تطورت على امتداد ما يزيد على قرنين. وقد عكس ترامب في حديثه عن عمد أسوأ لحظات ريتشارد نيكسون، في الوقت الذي بدا منفصلاً تمامًا عن العمق الفكري والإبداع اللذين طالما ميزا نيكسون.
وقد اختار ترامب طريقًا مغايرًا عن المألوف، ليس على الصعيد السياسي فحسب، وإنما كذلك فيما يتعلق بالتاريخ والثقافة الأميركية، ليطرح نفسه باعتباره الرجل الذي يضعه القدر في طريق الولايات المتحدة، وباعتباره البطل الأوحد الذي يملك الإجابة عن كل معضلة وطنية.
والآن، كيف تتعامل هيلاري كلينتون مع هذا الأمر؟
مثلما جرى النظر إلى ما حدث في كليفلاند باعتباره وقائع محاكمة - هيمنت عليها صيحات «احبسوها!» - فإن المؤتمر الوطني الديمقراطي العام في فيلادلفيا، المنعقد هذا الأسبوع، سيطرت عليه نبرة الدفاع عن النفس.
في الواقع، تشتهر كلينتون بكونها سياسية تميل لاتخاذ موقف الدفاع، علاوة على مقتها الشديد لوسائل الإعلام، كما أنها تكره سياسيي الحزب الجمهوري الذين صوروها دومًا كساحرة شريرة.
ونتيجة الظروف المحيطة وطابعها الشخصي، تحولت أول سيدة مرشحة لمنصب الرئاسة عن حزب سياسي كبير داخل الولايات المتحدة إلى القيِّم الأمين على الوضع السياسي القائم. وبالفعل، أوضح غاري لانغر، الذي أشرف على استطلاع للرأي حول المرشحين الرئاسيين لحساب قناة «إيه بي سي نيوز»، في يونيو (حزيران) الماضي، أن كلينتون «مرشحة الوضع القائم، في عام ارتفعت فيه مشاعر رفض الوضع القائم على نحو كبير».
والواضح أنه ليس ثمة سبيل للهروب من هذا الوضع، وما من معنى حقيقي من وراء مجرد المحاولة للقيام بذلك. وقد حمل اختيار كلينتون للسياسي المعتدل المخضرم السيناتور تيم كين لخوض الانتخابات إلى جوارها، باعتباره المرشح لمنصب نائب الرئيس، رسائل تؤكد هذا المعنى. وتعتبر كلينتون واحدة من دعائم المؤسسة السياسية بالبلاد منذ أمد بعيد، والوريث الطبيعي لرئاسة باراك أوباما التي استمرت فترتين. بيد أن المشكلة أنها لا تلقى قبولاً واسعًا بين صفوف الأميركيين، بجانب عجزها عن اجتذاب مشاعر الثقة على نطاق كبير. ورغم أنه بإمكانها تحسين معدلات قبولها من قبل الرأي العام بصورة ما، تبقى الحقيقة أن الإطار السياسي العام أصبح شديد الاستقطاب. وفي الوقت ذاته، ليس باستطاعة أوباما مساعدتها كثيرًا.
ونظرًا لأن ترامب يمثل توجهًا منفصلاً عن السائد داخل واشنطن، وكذلك عن قيم وأعراف الحكومة الأميركية، فإنه دفع كلينتون لدعم استمرارية الوضع القائم، وتصوير ذلك باعتباره عملاً وطنيًا.
وخلال خطابه، الذي استمر لأكثر من ساعة، لم يتطرق ترامب لقضية روحية أو فلسفية أو تاريخية واحدة، كما غاب عن خطابه تاريخ الحزب الجمهوري و«الآباء المؤسسين» للولايات المتحدة.
ويمكن القول إن ترامب يعتبر رمزًا لفقدان الثقة في الديمقراطيات. وقد وعد المرشح الجمهوري للرئاسة بالعمل خارج الثقافة السياسية السائدة، مشيرًا إلى أنه لم تعد هناك إمكانية لأن يتكبد الأميركيون مشقة الالتزام بهذا المعيار أو تلك القيمة، وأوضح أنه في أوقات الحرب تتلاشى أهمية الالتزام بالخطاب المحترم والقواعد والأعراف المعمول بها، بل والعملية الديمقراطية ذاتها.
من جانبهم، يعتقد الأميركيون أن العملية الديمقراطية فاسدة، ولا تستجيب لحاجاتهم. ومع هذا، لا تزال القيم التي بنتها هذه العملية لها أصداؤها. أما كلينتون، فليس بمقدورها التبرؤ من المؤسسة السياسية التي أنجبتها. وعليه، فإنه يتحتم عليها إظهار قوة هذه المؤسسة، وأهميتها، وحيويتها. وبطبيعة الحال، من الواضح أنها تقف في وجه رياح عاتية. إلا أن الحقيقة تبقى أن المنظومة الأميركية أفرزت أكثر من قرنين من النتائج الملموسة، عبر تحقيق توازن بين المصالح، وتوسيع نطاق الحرية، وتوزيع السلطة، والتشارك في الثروة. وكان من شأن الاستثمارات العامة والهجرة تعزيز الثروة والتقدم. وحتى العولمة حملت مكافآت واضحة، وكذلك تحديات.
والآن، ماذا أثمرت منظومة ترامب؟ الملاحظ أن القيم التي جعلت أميركا ناجحة مرت من دون ذكر لها داخل المؤتمر العام للحزب الجمهوري - وإنما تعلق الحديث بترامب.
من جانبها، قالت إليزابيث وارين، التي تعتبر أكثر الأصوات الخطابية حدة داخل المعسكر الديمقراطي، إن ترامب: «يتحدث على نحو يشبه الحكام الاستبداديين الذين يحكمون دولاً صغيرة، وليس كشخص يترشح لأعلى منصب سياسي داخل أقوى نظام ديمقراطي على وجه الأرض».
وإذا كانت كلينتون على غير ثقة من غرائزها، فإن عليها الثقة في غرائز وارين. والواضح أن السيناتور عن ولاية ماساتشوستس لا تخجل من مهاجمة المشهد السياسي، لكنها لا تدعو لثورة مثلما يفعل بيرني ساندرز، وإنما تسعى لتعزيز النظام السياسي، وليس دفنه، مع إقرارها بأن «أقوى ديمقراطية على وجه الأرض» لا تزال تحمل قيمة كبيرة.
والملاحظ أن الغالبية العظمى من الأميركيين يعتقدون أن البلاد تسير في طريق خطأ، وقد اعتقدوا الأمر ذاته بمعدل يفوق 2 إلى 1، في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2012. وفي غضون أسابيع، أعادوا انتخاب الرئيس.
والواضح أن كلينتون ليست أوباما، لكنها تشاركه إيمانه بالسياسات والحكومة باعتبارهما قوتين من قوى الخير، وقد ورثت تحالفه الذي أصبح الوجه الجمعي لمستقبل الأمة. ويقف هذا التحالف مهيأ لجني الكثير من وراء النظام السياسي الأميركي، حال استغلاله على النحو المناسب الذي يعزز مصالحهم بمجالات الرعاية الصحية والتعليم ورعاية الطفل والبنية التحتية وعالم مستقر. ويدرك هذا التحالف جيدًا أن ترامب لا يمثل بديلاً، وإنما يمثل بذرة الدمار.
ومن المعتقد أن كلينتون لن تتحول لشخص موثوق به في أعين الأميركيين بحلول نوفمبر (تشرين الثاني)، لكنها قد تتحول إلى أداة لحماية القيم الأميركية التي تهددها المظالم العرقية والثقافية التي ظهرت في كليفلاند. كما أنها قد تصبح بطلة السياسات التي تدفع البلاد قدمًا بدلاً من توجيهها نحو الظلام - وينبغي أن يكون هذا كافيًا بحقها.
الأمر الذي يمكن لكلينتون فعله هو تذكير الناخبين الذين لم يقرروا تأييدها بالفعل بأن النظام الذي تمثله، وتعد بتجديد الدماء في عروقه نيابة عنهم، سيتكفل بكبح جماحها ومحاسبتها.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»