فرانسيس ويلكنسون
TT

حفلة البكاء على الذات في كليفلاند

أعلن حاكم فلوريدا السابق جيب بوش في سبتمبر (أيلول) الماضي عن قوله: «نقف في هذه اللحظة عند مفترق طرق. هل سنتخذ توجه ريغان، التوجه المتفائل الباعث على الأمل، وهو التوجه القائم على فكرة أن تأتي إلى بلادنا على نحو قانوني، وتسعى بدأب وراء تحقيق أحلامك، ما يمكنك من خلق فرص أمامنا جميعًا؟ أم سنتبع توجه دونالد ترامب، التوجه الذي يزعم أن كل شيء سيئ، وكل شيء سينتهي؟».
من جانبهم، أجاب الناخبون الجمهوريون منذ أمد بعيد عن السؤال الذي طرحه جيب بوش. وحمل المؤتمر العام للحزب في كليفلاند، الذي أقيم مؤخرًا، فرصة لتأكيد الإجابة عن نحو جديد ومؤلم.
من ناحيته، أعلن عمدة نيويورك السابق، رودولف غيلياني، من على منصة المؤتمر العام أنه «لن تكون هناك انتخابات قادمة. هذا فصل الخطاب»، وإن كان لم يتضح ما إذا كان بذلك يعلن نهاية أميركا أم بداية نظام دونالد ترامب الديكتاتوري والمستبد.
أما ما كان واضحًا، من جديد، فهو أن المحافظين البيض يعتقدون أن الأمة التي يعشقونها يشمئزون منها في اللحظة نفسها، ويعتقد البعض أنهم وحدهم من بنوها. وتعج حملة ترامب الانتخابية بذكر قائمة من المتهمين بتدمير البناء الذي أقامته هذه العناصر المحافظة من أصحاب البشرة البيضاء.
والملاحظ أن كثيرًا من ناخبي دونالد ترامب يتوافقون مع صورة الرجل الأبيض صاحب التعليم المحدود والإمكانات المتقلصة. إلا أن هؤلاء الناخبين ليسوا من نوعية الناخبين الذين يرتدون قبعات طريفة ويطالبون بسجن هيلاري كلينتون في كليفلاند، وإنما يجتذب المؤتمر العام للحزب أشخاصًا قادرين على السفر لمدينة قاصية والبقاء فيها لأربعة أو خمسة أيام لحضور سلسلة من الحفلات والفعاليات السياسية. (تبعًا لما ذكرته صحيفة «واشنطن بوست»، يتوقع القائمون على تنظيم المؤتمر أن يصل مستوى الإنفاق فيه إلى 250 مليون دولار) وبذلك يتضح أن كثيرًا من الحضور من الميسورين. وبجانب كونهم ميسورين ماديًا، فإنهم يملكون رأس مال اجتماعي وسياسي داخل المجتمعات الصغيرة التي ينتمون إليها.
وبصورة إجمالية، يمكن القول إن مؤيدي ترامب من الناخبين أفضل من حيث الوضع الاقتصادي عن غالبية الأميركيين، وهو أمر غير مثير للدهشة بالنظر إلى أنهم من البيض وكبار السن، وهما اثنان من العناصر الديموغرافية الأساسية المرتبطة بالرخاء نسبيًا. وتشير الأرقام إلى أن متوسط دخل الأسرة العادية من البيض خلال عام 2013 بلغ 141 ألف دولار، مقارنة بـ11 ألف دولار أميركي للأسرة العادية من أصحاب البشرة السمراء. كما أن معدل البطالة في أوساط أصحاب البشرة الداكنة تبلغ عادة ضعف المعدل في صفوف البيض. أما معدل الفقر فيبلغ في أوساط الفئة الأولى مرتين ونصف المعدل بين أبناء الفئة الثانية.
والملاحظ أن هؤلاء البيض الميسورين في كليفلاند هم من ينضحون بمشاعر الأسى والبكاء على الذات. وفي مقال حول التأييد القوي الذي يحظى به ترامب في أوساط الرجال البيض الحاصلين على تعليم جامعي، قال المتخصص في العلوم السياسية، هوارد روزنثال، في حديث مع توماس إدسال من صحيفة «نيويورك تايمز»، إن السنوات الخمسين الأخيرة شهدت عملية إعادة توزيع ضخمة للغاية من الذكور البيض إلى الأقليات والنساء. وأضاف أنه يدعم ويؤمن بالسياسات العامة التي أنجزت إعادة التوزيع.
ويعني ذلك أن النفوذ كان يتدفق بصورة أكثر تكافؤا حول مختلف فئات المجتمع الأميركي (النساء وغير البيض والمهاجرين). وتكمن المفارقة في أن جهود تعزيز الإنصاف داخل المجتمع الأميركي دفعت ببعض المستفيدين من الوضع المعوج السابق لأن يخلصوا لنتيجة مفادها أن الحلم الأميركي يتعرض للاختناق الآن بسبب الاهتمام المفرط الموجه إلى كثير للغاية من المتطلعين الجدد.
والآن، يشعر أنصار ترامب بالرضا لأنه يتفوه بصوت مرتفع بما يجول في أذهان كثيرين للغاية، حول ما يعتبرونه ظلمًا للبيض أصحاب التوجهات المحافظة أمثالهم. ويشعر كثيرون بالخوف من أن يسقطوا ضحايا للتمييز من جانب الغالبية غير البيضاء القادمة. وتعتمل بداخلهم مشاعر قوية حول عنصرية حاضرة لا تعدو كونها وهمًا من أوهامهم.
ومؤخرًا، أبدى أصحاب البشرة الداكنة والأصول اللاتينية قدرًا أكبر من التفاؤل بوجه عام حيال مستقبلهم ومستقبل ما يعرف باسم «الحلم الأميركي». وخلال استطلاع رأي أجري بين عينة ضخمة العام الماضي، وافق أقل من نصف البيض على أن أميركا تنتظر «أفضل أيامها» في الفترة المقبلة. أما بين أصحاب البشرة السمراء، فوافق 80 في المائة على هذا الرأي. وبالمثل، خلص استطلاع رأي أجري عام 2013 إلى أن 86 في المائة من أصحاب البشرة السمراء راضون عن حياتهم في مجملها.
وفي الوقت الذي ما يزال فيه هؤلاء الأميركيون مؤمنين بالحلم الأميركي، ويعتقدون أن العمل الجاد قد يحقق لهم مستقبلاً مشرقًا، فإن أنصار ترامب يسيطر عليهم اليأس والشعور بالألم والغضب.
وهنا تحديدًا يكمن مفترق الطرق الوطني الذي لاحظه جيب بدقة. أحد الطرق المتقاطعة يبدو مشمسًا وفسيحًا، يقصده كثيرون من شتى فئات المجتمع، في حين، الطريق الآخر ضيق ويهيمن عليه اللون الأبيض ولا يبدو أنه يتجه نحو وجهة محددة.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»