شارل جبور
TT

المزاج السني الجديد وارتداداته

أظهرت الانتخابات البلدية التي أجريت في لبنان مؤخرًا وجود تحولات داخل كل البيئات في مؤشر إلى رغبة الرأي العام اللبناني في التغيير بعدما وصلت الأمور على كل المستويات إلى حدود الانهيار، ولكن معظم تلك المؤشرات بقيت ضمن إطارها الطبيعي والمعقول باستثناء المفاجأة المدوية التي شهدتها مدينة طرابلس مع نجاح وزير العدل المستقيل اللواء أشرف ريفي في إسقاط أوسع تحالف يمكن تصوره ومؤلف من رؤساء حكومات ووزراء وأحزاب وقيادات تاريخية في المدينة، وذلك في خطوة دلت على عمق التحول في المزاج السني الذي وجه رسالة سياسية واضحة المعالم بأنه ضد سياسة المساومات والتنازلات المتبعة مع «حزب الله».
ولا يفيد بشيء التقليل من وقع هذه النتيجة بإعطاء تبريرات وحجج وذرائع كل الهدف منها رفض الاعتراف بمزاج الشارع، بل إن أي محاولة هروب إلى الأمام ستزيد الهوة بين هذا الشارع والقوى الممثلة له في البرلمان اليوم، وبالتالي ستعاقب في صناديق الاقتراع النيابية كما عوقبت في صناديق الاقتراع البلدية.
وهذا الجانب تحديدًا المتصل بتعويم جهة ومعاقبة أخرى ليس هو الأساس، باعتباره مسألة طبيعية تتصل بتوجه الرأي العام الذي يجب أخذ اقتراعه في الاعتبار، إنما الأساس يكمن في خطورة تجاهل الرسالة السياسية للمزاج السني في شمال لبنان وعاصمته طرابلس، لأن هذا التجاهل سيؤدي إلى مزيد من الاحتقان وينعكس سلبًا على الاستقرار السياسي.
وهذه الرسالة موجهة إلى طرفين أساسيين؛ الطرف الأول تيار «المستقبل» الذي يجب أن يبحث عن الأسباب التي جعلت الشارع السني يعاقبه سياسيًا، وفي حال لم يقدم على هذه المراجعة يعني أن الاقتراع نيابيًا ضده لن يكون محط تساؤل واستغراب.
والشارع السني الذي اقترع ضد «المستقبل» في طرابلس ليس شارعًا متطرفًا كما يصوَّر، ولا يريد حربًا في لبنان، بل هو الأحرص على الاستقرار، إنما هذا الشارع لم يفهم الأسباب الموجبة التي دفعت هذا التيار إلى تقديم رزمة مفتوحة من التنازلات لـ«حزب الله» من دون مقابل، من المساكنة في الحكومة التي كانت مشروطة بانسحاب الحزب من سوريا وتم التراجع عن هذا المطلب، إلى المشاركة في حوارين لم ينتجا شيئا باستثناء إعطاء الحزب الغطاء الوطني الذي يريده، وما بينهما التراخي مع الهجوم غير المسبوق من قبل الحزب على المملكة، فيما لو تمسك «المستقبل» بالسقف الوطني المطلوب كان اضطر الحزب إلى تقديم التنازلات المطلوبة، وهذه التنازلات هي لمصلحة لبنان وكل الشعب اللبناني بما فيه جمهور الحزب.
والرسالة الثانية موجهة ضد «حزب الله» وسياساته لجهة رفضه تقديم أي تنازلات للبلد من تطبيق الخطة الأمنية بالحد الأدنى إلى الانسحاب من سوريا ووضع سلاحه بتصرف الدولة وعدم تعريض علاقات لبنان مع الدول الخارجية للقطع، وبالتالي على الحزب أن يقرأ أصوات الناس في طرابلس جيدًا، حيث إن «المستقبل» دفع ثمن مساكنته الحكومية معه وحواره غير المجدي معه، ولذلك لا يمكن أن تستمر الأمور على هذا النحو.
وما تجدر ملاحظته أن الاقتراع في طرابلس تقاطع مع العتب السعودي على الموقف الرسمي اللبناني لجهة إدارته للعلاقة مع «حزب الله» والذي قضى بتجميد الهبة السعودية، والملاحظ أيضًا أن موقف الوزير ريفي ينسجم أكثر مع السياسة السعودية المتشددة حيال طهران ودورها في المنطقة، ويتقاطع مع كل المناخ العربي.
ويقتضي هنا تسجيل ثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى أن الرأي العام لا يريد خطابات ومواقف لا تقدم ولا تؤخر، إنما أفعالاً تدفع الفريق الآخر إلى الالتزام بالحد الأدنى المطلوب إذا كان متعذرًا الحد الأقصى، إذ أين تصرف المواقف العالية النبرة في حال استمرت المساكنة والحوار من دون تحقيق أي هدف فعلي؟
الملاحظة الثانية أن الرأي العام لا يريد الهجوم على النظام السوري من أجل تحييد «حزب الله» كبدل عن ضائع، لأن النظام السوري بنظر اللبنانيين انتهى والأزمة اليوم هي مع الحزب.
الملاحظة الثالثة أن الرأي العام اللبناني برمته حريص أشد الحرص على الاستقرار، والضغط على «حزب الله» هو من باب تحصين هذا الاستقرار لا العكس.
ويبقى أن المزاج السني في طرابلس وضع «حزب الله» أمام ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول أن يبقي الحزب الوضع في لبنان مجمدًا حتى إشعار آخر من دون انتخابات رئاسية ولا نيابية، لأنه يخشى من أن تفتح أي انتخابات نيابية مقبلة الباب أمام الوزير أشرف ريفي للخروج بكتلة نيابية كبرى تحوله إلى رقم صعب في المعادلة الداخلية، وتدفعه إلى رفض تأليف حكومة مع «حزب الله»، وبما أن الحزب اعتاد على رقصة «التانغو» مع «المستقبل»، يفضل ألا يشرب هذه الكأس، مفضلاً التمديد إلى أن تنضج التسوية في المنطقة.
الاحتمال الثاني أن يحتضن «حزب الله» تيار «المستقبل» من أجل الالتفاف على الحالة السنية الجديدة، وذلك عبر إنهاء الفراغ الرئاسي وتكليف الرئيس سعد الحريري الحكومة، الأمر الذي يمكنه من عزل هذه الحالة واستعادة شعبيته والإمساك مجددًا بمفاصل الشارع.
الاحتمال الثالث أن يكتفي «حزب الله» بمراقبة الصراع السني الداخلي في ظل إدراكه صعوبة أن يحسم هذا الطرف على ذاك، الأمر الذي يؤدي بنظره إلى مزيد من إضعاف الحالة السنية وتشرذمها.
فلقد دخل لبنان بعد الانتخابات البلدية في مرحلة جديدة ومفتوحة على شتى الاحتمالات، من إعادة إنتاج السلطة إلى استمرار الفراغ، ولكن الثابت في كل هذا المشهد أن الشارع السني برهن على أنه يُمهِل ولا يُهمِل، وأنه يحاسب ويسائل، وأنه مسيّس حتى العظم، وأنه لا يرضخ ولا يدجّن ولا يتراجع عن تمسكه بمشروع الدولة وانتماء لبنان العربي.