ألمانيا إزاء الصين... الاقتصاد مفتاح للتعايش السياسي

«تفاهم» برلين مع بكين مهدّد بتغيير القيادة في واشنطن

من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
TT

ألمانيا إزاء الصين... الاقتصاد مفتاح للتعايش السياسي

من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)

بعد أسابيع من تصويت الكونغرس الأميركي على حظر تطبيق «تيك توك» الإلكتروني الصيني، قرّر المستشار الألماني أولاف شولتس أن يفتح حساباً رسمياً في التطبيق. وكانت الصدفة أن حساب شولتس الذي كانت بداياته بـ«فيديو» لحقيبته التي ترافقه حيثما سافر، انطلق قبل أيام من زيارة للمستشار إلى الصين. ثم إنه على الرغم من أن الناطق باسم شولتس أكد أن الحدثين غير مرتبطين، بل جاءا بمحض «المصادفة»، فإنهما بلا شك يشيران إلى مقاربتين متناقضتين لعلاقات كل من الإدارة الأميركية والحكومة الألمانية مع بكين. تأتي زيارة شولتس الصينية، وهي الثانية له منذ تسلّمه منصبه عام 2021، لتوضح أن التبادل التجاري هو في طليعة اهتمامات برلين في علاقتها مع بكين، فالمستشار الألماني ترأس وفد شخصيات أعمال كبيراً ورافقه 3 وزراء للتكنولوجيا والبيئة، كما خصّص اليومين الأوّلين من الزيارة التي امتدت 3 أيام للقاءات تتعلّق بالأعمال. وكان لافتاً أن البحث لم يتطرّق إلى السياسة إلا في اليوم الثالث، حين التقى شولتس بالرئيس الصيني شي جينبينغ ورئيس الحكومة لي كيانغ. من جهة ثانية، بدت هذه الزيارة شبيهة بالزيارات التي كانت تُجريها المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، مركّزة فيها على التجارة والأعمال، مع أن تبنّي حكومة شولتس الائتلافية استراتيجية جديدة تجاه الصين العام الماضي يتمحوَر حول «تخفيف المخاطر» من مغبة الإفراط في اعتماد الصناعة الألمانية على الصين. وما يُذكر أن هذه السياسة تبلوَرت بعد الحرب في أوكرانيا، و«الأخطاء» التي قالت ألمانيا إنها تعلمتها من تلك الحرب بسبب اعتمادها السابق على الغاز الروسي الذي أوقفت موسكو إمداداته بعد الحرب رداً على العقوبات الأوروبية. وفي المقابل، لم تعكس زيارة شولتس لبكين، على الإطلاق، الاستراتيجية الألمانية الجديدة تجاه الصين، ولا الاستراتيجية الأوروبية التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي العام الماضي... التي تعكس أيضاً المخاوف من زيادة اعتماد السوق الأوروبية على البضائع الصينية.

شولتز في مدينة تشونغكينغ، إحدى المحطات الاقتصادية المهمة في زيارته (رويترز)

 

احتاج اعتماد الحكومة الألمانية استراتيجية جديدة تجاه الصين، العام الماضي، إلى فترة طالت عدة أشهر، وشهدت اندلاع خلافات داخل أحزاب الائتلاف الحاكم - الذي يقوده اشتراكيو الحزب «الديمقراطي الاجتماعي»، ويضم كلاً من ليبراليي الحزب ««الديمقراطي الحر»، وبيئيي حزب «الخضر». وفي حين كانت وزارة الخارجية التي يديرها حزب «الخضر»، تشدّ باتجاه تبنّي سياسة متشددة تجاه بكين، كانت المستشارية (أي رئاسة الحكومة) التي يديرها الاشتراكيون تدفع في الاتجاه المعاكس. ولقد ظهر هذا الخلاف في المسوّدة الأولى التي خطتها وزارة الخارجية للاستراتيجية الجديدة مع الصين، والتي تضمنت تعابير مثل «فصل» الاقتصاد الصيني عن نظيره الألماني. بيد أن مكتب المستشار أولاف شولتس رفض استخدام تعبير «فصل»، وطلب الاستعاضة عنه بـ«تنويع»... ومن ثم «تخفيف» الاعتماد على السوق الصينية في كثير من المنتجات، خاصة المتعلقة بالتكنولوجيا والبيئة.

استراتيجية «صديقة» للصين

في الحقيقة، منذ اعتماد الاستراتيجية الجديدة، حرض شولتس على تكرار القول إن ألمانيا لا تسعى إلى «فصل» الاقتصاد الصيني عن الاقتصاد الألماني، وهذا الكلام أعاد تكراره غير مرة خلال محطات زيارته الأخيرة للصين. وللعلم، لم تواجه الخارجية، آنذاك، اعتراضاً من المستشار فقط، بل من أصحاب الأعمال كذلك. بل، عندما حاولت وزيرة الداخلية (الاشتراكية) نانسي فيزر، العام الماضي، إجبار شركات الاتصالات على التخلّي عن بعض القطع الصينية في تحديث شبكات الاتصالات، فإنها وُوجهت بموجه عارمة من الاعتراضات، ليس فقط من شركات الهواتف التي طالبت بتعويضات من الحكومة، بل أيضاً من داخل الحكومة - وتحديداً من وزير التحديث الرقمي فولكر فيسينغ المنتمي إلى الحزب الديمقراطي الحر - والذي رافق شولتس في رحلته إلى الصين. وأرسلت كبرى شركات الاتصالات في ألمانيا مثل «تيليكوم» و«فودافون» و«تيليفونيكا»، رسالة إلى وزيرة الداخلية وصفت فيها مطالبها بأنها «أشبه بمصادرة جزئية»، وبأنها ستكلّف الشركات المليارات، وتعيد إلى الوراء تحديث الشبكات بسنوات.

هذه الشركات الثلاث كانت قد اختارت منذ سنوات، في ظل حكومة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل المحافظة، شركة «هواوي» الصينية لتحديث شبكة الإنترنت وبناء شبكة الـ«5 جي». وهنا تجدر الإشارة إلى أن ألمانيا كانت قد رفضت «النصائح» والضغوط الأميركية التي مارسها الرئيس السابق دونالد ترمب على ألمانيا ودول أوروبية أخرى لكي ترفض السماح لشركة «هواوي» بالعمل فيها. والمعلوم أن ذريعة ترمب في حينه قامت على الزعم بأن «هواوي» مرتبطة بالنظام الحاكم في الصين، وبالتالي، ستكون قادرة على مراقبة الاتصالات من خلال شبكاتها. وها هي ألمانيا، حتى اليوم، مستمرة بانتهاج السياسة نفسها رغم استراتيجيتها الجديدة مع الصين.

من جانب آخر، تُعدّ الصين الشريك التجاري الأكبر لألمانيا، تليها الولايات المتحدة. وخلال العام الماضي 2023، بلغ حجم التجارة بين البلدين أكثر من 253 مليار يورو، لتكون الشريك الأول للعام الثامن على التوالي. ولم يختلف حجم التبادل التجاري مع الولايات المتحدة في العام نفسه كثيراً؛ إذ بلغ أكثر من 252 مليار يورو، ولكن بفارق كبير في العجز والفائض التجاريَّين. ذلك أنه مع الصين يربو العجز التجاري الألماني على 58 مليار يورو، في حين حققت ألمانيا فائضاً تجارياً مع الولايات المتحدة زاد على الـ63 مليار يورو.

نقاط خلافية مع واشنطن...وبعض الأوروبيين

شكّل التبادل التجاري الألماني مع الصين والولايات المتحدة واحدة من النقاط الخلافية الكثيرة بين برلين وواشنطن إبان عهد ترمب، ساهمت بتوتر العلاقات بين الجانبين، وهي مخاوف ستعود إلى الظهور، من دون شك، إذا ما عاد ترمب إلى البيت الأبيض. ولكن السوق الصينية تُعد سوقاً أساسية بالنسبة لألمانيا، خاصة بالنسبة لقطاع صناعة السيارات الألمانية؛ إذ تبيع شركات «مرسيدس بنز» و«بي إم دبليو» و«فولكسفاغن» من السيارات في الصين أعداداً أكبر مما تبيعه في قارة أوروبا مجتمعة. وعلى الرغم من شكوى ألمانيا من أن الصين لا تعامل شركاءها التجاريين وشركاتهم الصانعة كما تعامل ألمانيا الشركات الصينية، فهي تتخوف من دعم سياسة تجارية متشدّدة تجاه الصين تخوفاً من خسارة سوق أساسية بالنسبة إليها.

وبالتوازي، فإن هذا التردّد الألماني في التشدد مع الصين فجّر خلافات أيضاً بينها وبين شركائها الأوروبيين، وتحديداً فرنسا، التي تدفع باتجاه خطوات «حمائية» إضافية على صعيد الاتحاد الأوروبي. وحقاً، فإن فرنسا ولاعبين أوروبيين آخرين يأملون بالتوافق على إجراءات تحمي أسواقها وتحول دون «إغراقها» بالسلع الصينية الرخيصة، ما يهدد الشركات الأوروبية، ويلغي المنافسة، ويزيد من الاعتماد على الصين. وخلال اجتماع عقد بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس مطلع أبريل (نيسان) الجاري لوزراء اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، قال وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير إن أوروبا «تتلقى كميات ضخمة من السلع الصينية الرخيصة». وأشار إلى أن العجز التجاري بين أوروبا والصين تضاعف ثلاث مرات في السنوات العشر الماضية، وعليه، دعا الوزير الفرنسي إلى مناقشة سياسات أشد صرامة لمواجهة ذلك. غير أن وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، الذي كان مشاركاً في الاجتماع، حذّر من «الحمائية» ورفع التعرفات الجمركية... في صدىً لمواقف المستشار شولتس، مع أن هابيك ينتمي إلى حزب «الخضر» الذي يفضل سياسات اقتصادية أكثر تشدداً مع الصين.

 

سيارة بي واي دي صينية... في طريقها لغزو أسواق أوروبا (رويترز)

والاتحاد الأوروبي أيضاً... ميّال إلى التشدّد

وأبعد من ألمانيا، يدفع الاتحاد الأوروبي برئيسة مفوضيته أورسولا فون دير لاين إلى مقاربة متشدّدة مع الصين، ولقد تبين هذا في الاستراتيجية الأوروبية التي أعلنت عنها بروكسل العام الماضي، والتحقيقات التي تفتحها في شركات صينية يشتبه بأنها لا تلتزم بقواعد المنافسة.

وللعلم، تستند بروكسل إلى آليات داخلية لمراقبة الشركات التي تستخدمها الصين غطاءً لإغراق السوق ببضائع رخيصة. وفي العام الماضي، فتح الاتحاد الأوروبي تحقيقاً في وضع قطاع الآليات الكهربائية الصينية لتحديد ما إذا كانت الصين استخدمت شركات مدعومة بشكل غير شرعي بهدف إلغاء المنافسة. وبناءً على نتائج التحقيق، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يفرض رسوماً إضافية على استيراد السيارات الصينية الكهربائية. وكان الاتحاد قد فتح كذلك تحقيقات خلال العام الماضي في عدد من الحالات التي تستهدف شركات لتوربينات الرياح والألواح الشمسية في عدد من الدول الأوروبية مثل اليونان وإسبانيا وفرنسا ورومانيا وبلغاريا، اشتبه بأنها غطاء لشركات صينية. ولكن بروكسل، التي تريد تشديد الخطط الحمائية، تصطدم بمعارضة برلين التي ترفض اتخاذ خطوات عقابية أو فرض رسوم إضافية على البضائع الصينية للإبقاء على المنافسة ورفع أسعارها البخسة، كما تفعل واشنطن بشكل مستمر.

وفي الأسبوع الماضي فقط، أعلنت واشنطن رفع الرسوم على الصلب والألمنيوم الصيني بنسبة 25 في المائة، كما فتحت تحقيقاً فيما ادعت أنه «ممارسات الصين غير النزيهة» في قطاع بناء السفن. إلا أن المستشار الألماني لا يدعم خطوات مماثلة في الاتحاد الأوروبي؛ لأنه يخشى أن تؤدي إلى «حرب تجارية»، ويرى أنه من الأفضل السماح للشركات تحمل مسؤولية تنويع الصادرات بشكل فردي. وبالفعل، نقلت مجلة «دير شبيغل» عن مصادر مقربة من شولتس، أن خطوة «تخفيض الاعتماد» على الصين هي مسألة «سنوات وليست شهوراً». وأردفت المجلة، نقلاً عن المصادر، أن وضع ألمانيا مختلف عن وضعي فرنسا والولايات المتحدة؛ كونها دولة مصدّرة وتبيع كميات ضخمة من السيارات في السوق الصينية.

وفي سياق متصل، إلى جانب التكنولوجيا المتعلقة بالاتصالات، تغرق الصين أسواق أوروبا حالياً بالتكنولوجيا البيئية مثل مضخات التدفئة وتوربينات الرياح وغيرها من المعدات التي تحتاج إليها أوروبا في خططها الانتقالية البيئية لوقف اعتمادها على الغاز والنفط، توصلاً إلى الاعتماد فقط على الطاقة النظيفة. وهنا نذكر، على سبيل المثال، أن أوروبا تستورد مثلاً قرابة 29 في المائة من توربينات الرياح و68 في المائة من مضخات التدفئة من الصين.

 

الصادرات الأوروبية إلى الصين لم تتغير منذ عام 2019 في حين نمت الواردات الصينية إلى أوروبا

أهمية قطاع السيارات

غير أن قطاع السيارات يظل يشكل التحدّي الأكبر أمام أوروبا في تبادلها التجاري مع الصين، وفق تقرير لـ«معهد الأطلسي» الأميركي للدراسات. ويضيف تقرير المعهد أن الصين لطالما كانت سوقاً أساسية للسيارات التي تنتجها دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة ألمانيا، بيد أنها أضحت أخيراً - كذلك - مصدّراً أساسياً للسيارات إلى أوروبا. ويشير إلى أنه «حتى الآن، ما زال الاتحاد الأوروبي محافظاً على تبادل تجاري إيجابي مع الصين فيما يتعلق بالسيارات، ولكن ارتفاع الواردات الصينية يشير إلى أنه، من دون خطوات حمائية جديدة، قد يصبح الاتحاد الأوروبي مستورداً صافياً».

وضمن هذا الإطار، قارن المعهد بين أرقام الصادرات والواردات بين أوروبا والصين في السنوات الماضية، فذكر أن الصادرات الأوروبية إلى الصين لم تتغير منذ عام 2019، في حين نمت الواردات الصينية إلى أوروبا خلال الفترة نفسها بنسبة تصل إلى 3000 في المائة، وارتفعت قيمة معدل الواردات الصينية شهرياً من 33 مليون دولار عام 2019 إلى أكثر من مليار يورو عام 2023. وبين الواردات الصينية من السيارات الكهربائية منتجات شركة «إم جي» - البريطانية سابقاً والصينية حالياً. وهنا يورد تقرير المعهد أن واردات السيارات الصينية ساهمت بزيادة حجم الواردات بنسبة 75 في المائة.

ويتفق خبراء اقتصاديون في ألمانيا على أنه منذ اعتماد الاستراتيجية الصينية، لم يحدث تغيير كبير في علاقة ألمانيا والصين. ونقلت مجلة «دير شبيغل» عن نادين غوديهارت، المتخصصة بالشؤون الآسيوية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، قولها إن «الاستراتيجية تجاه الصين لم تؤدِّ بعد إلى شيء ملموس، ولا يوجد هناك أصلاً أي تغيير بنيوي؛ إذ لم يعيّن مفوض للصين ولا هيئة خبراء». غير أن شولتس مصرّ على التمسك بسياسته مع بكين والتي يعتمد فيها على الاقتصاد أولاً، على الرغم من تحذيرات الاستخبارات الألمانية من أن الصين تشكل «تهديداً بعيد المدى لأمن ألمانيا ومصالحها، أكبر من التهديد الذي تشكله روسيا». وكان توماس هالدنفانغ، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني، قد أعطى إحاطة وافية لـ«البوندستاغ» (مجلس النواب) عام 2022 حول المخاطر التي تشكلها الصين، وقال آنذاك: «إذا كانت روسيا العاصفة، فإن الصين التغير المناخي!».

شعار شركة هواوي (أ ف ب/غيتي)

الضغط على الروس

هنا، لا ينكر المستشار الألماني أن تصرفات الصين التجارية «مقلقة»، وصرّح بأنه تكلم مع المسؤولين الصينيين «بوضوح» حول مسائل تتعلق بالمنافسة المنصفة وحقوق الاختراع وغيرها. لكنه حتى الآن يبدو مكتفياً بالتحاور مع الجانب الصيني من دون التهديد بعواقب أو دعم خطوات تصعيدية ضد بكين داخل الاتحاد الأوروبي. ذلك أنه مقتنع بأن «الشراكة مع الصين تحمل بعداً سياسياً بالغ الأهمية»، خاصة فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا وتأثير الصين على روسيا.

وحقاً، في ختام زيارته إلى الصين، قال شولتس إن مسألة الحرب في أوكرانيا كانت «نقطة محوَرية» خلال اللقاءات التي أجراها في بكين. وأضاف أنه طلب من القيادة الصينية المشاركة في عملية السلام بشكل أكثر فاعلية؛ لأن «كلماتها تحمل ثقلاً» في موسكو. وتابع المستشار الألماني أنه طلب من الرئيس الصيني المشاركة في مؤتمر يونيو (حزيران) للسلام الذي تستضيفه سويسرا من دون روسيا. وليس واضحاً ما إذا كانت الصين وافقت على ذلك، علما بأنها تعدّ نفسها طرفاً محايداً في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، رغم أنها ترفض إدانة موسكو.

 

إبعاد الأوروبيين عن الصين... هاجس عند واشنطن

> يرى مراقبون سياسيون أن علاقة ألمانيا بالصين قد تصبح إشكالية أكبر بالنسبة إليها قريباً، خصوصاً في حال عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، لا سيما أنه كان يلوّح بشن حرب تجارية على الصين عندما كان رئيساً، وكان ينتقد كلاً من ألمانيا والاتحاد الأوروبي بسبب علاقاتهما التجارية مع الصين. ولكن، حتى في ظل إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، نرى واشنطن تتشدد في مواجهة بكين سياسياً وتجارياً، إذ تعدّ ممارساتها الاقتصادية والتجارية «عديمة النزاهة». وهنا، لا بد من الإشارة، إلى أنه حتى الاتحاد الأوروبي بات يفتح تحقيقاً تلو الآخر بشركات صينية وإغراق الأسواق الأوروبية ببضائع تلغي المنافسة الأوروبية. وأخيراً، فتح الاتحاد تحقيقاً في تطبيق «تيك توك» بعد إطلاقه منصة جديدة في فرنسا وإسبانيا موجهة للمراهقين والأطفال وتقديمه مكافآت مالية لمشاركة الفيديوهات ومشاهدتها. وفي ضوء ذلك، أعرب الاتحاد عن قلقه من أن يتسبب التطبيق في «إدمان» لدى الأطفال والمراهقين وطلب تفاصيل إضافية من «تيك توك» لتقييم المخاطر.أكثر من هذا، على الرغم من أن الخلافات الأوروبية الداخلية - وحتى الألمانية الداخلية - تمنع بروكسل حتى الآن من اتخاذ خطوات إضافية تواجه بصورة أفضل السياسة التجارية الصينية، يعتقد خبراء بوجود حاجة إلى خطط أوروبية بعيدة المدى حول العلاقات مع الصين. وفي تقرير «معهد الأطلسي» الأميركي حول الموضوع، قال إن «أوروبا لن تكون قادرة على تحقيق وقف اعتمادها على الصين في المدى القصير، ولا بالسرعة أو الأشكال التي تريدها واشنطن، لأن الأمر يتطلب استثمارات ضخمة داخل أوروبا تبني اقتصادات أكثر تنافسية، ستستغرق عدة سنوات، وعلى مدى عدة رئاسات أوروبية». وأضاف تقرير المعهد أن إدارة رئيسة مفوضية الاتحاد أورسولا فون دير لاين «تطور خريطة طريق لضمان نجاح خطة كهذه تطبق بعد انتهاء ولايتها». وتابع: «كي يتحقق ذلك، ستبقى ألمانيا، ومعها كبرى الشركات المستفيدة من التجارة مع الصين بسبب انخفاض أسعار البضائع، عقبة كبيرة في طريق تعديلات إضافية تبعد أوروبا عن إدمانها التجاري» على الصين.


مقالات ذات صلة

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

حصاد الأسبوع من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

أدت مجموعة من القضايا في العراق إلى تسخين الأجواء باكراً مع تحضير القوى السياسية لخوض الانتخابات المقبلة. وهذه الانتخابات تبدو مصيرية على كل الصعد،

حمزة مصطفى (بغداد)
حصاد الأسبوع لي جاي ميونغ

لي جاي ميونغ... الرئيس الكوري الجنوبي أمام تحدي إنقاذ الديمقراطية ومعركة الفساد

بعد ثلاث سنوات من التعرّض للهزيمة، نجح لي جاي ميونغ، مرشح «الحزب الديمقراطي» لمنصب الرئاسة في كوريا الجنوبية، في الفوز بأرفع منصب في البلاد. ويأتي انتخاب لي،…

براكريتي غوبتا ( نيودلهي)
حصاد الأسبوع صناعة السيارات في كوريا الجنوبية تواجه حرب واشنطن التجارية (نيوز1 كوريا)

العهد الجديد في كوريا الجنوبية أمام استحقاقات السياسة الخارجية

لم يُختبر لي جاي-ميونغ، رئيس كوريا الجنوبية الجديد، بعد فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، كونه لم يخض كثيراً في الشؤون الدولية إبان فترة عمله مسؤولاً محلياً.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع مركباات عسكرية أثناء إحدى جولات المواجهات في ليبيا (أ.ب)

ليبيا: حسابات الخصوم تفتح الأبواب «على المجهول»

شرعت الأزمة الليبية أبواباً جديدةً على مستقبل غامض، دفعت إليه حسابات سياسية وعسكرية لخصوم وأفرقاء في بلد يغرق في الفوضى منذ 14 سنة، وتتنازعه سلطتان متصارعتان بي

علاء حموده (القاهرة)
حصاد الأسبوع استعاد توم برّاك  وعائلته جنسية أجداده الذين هاجروا من مدينة زحلة اللبنانية

توماس برّاك سفير أميركا لدى تركيا... مكانة «فريدة في عالم ترمب»

في تقرير رفعته وزارة الخارجية الأميركية يوم 17 مارس (آذار) 2025، إلى لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، تحت عنوان «شهادة كفاءة مثبتة» لطلب ترشيح توماس

إيلي يوسف (واشنطن)

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
TT

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)

أدت مجموعة من القضايا في العراق إلى تسخين الأجواء باكراً مع تحضير القوى السياسية لخوض الانتخابات المقبلة. وهذه الانتخابات تبدو مصيرية على كل الصعد، نظراً لحجم الشحن و«التسقيط» (الاستهداف السلبي) السياسي والضخّ المالي والتصعيد الطائفي. غير أن أهمية هذه الانتخابات، المقرّرة في نهاية العام الحالي، لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل لكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، خصوصاً أن هناك متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب العراقية في موسم الانتخابات.

في ظل المتغيرات الإقليمية المحيطة بالعراق، ينشغل السياسيون العراقيون مبكراً بالتخطيط لخوض الانتخابات النيابية المحددة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والتي يتوقع أن تحدث تغييراً جوهرياً في أوزان الأحزاب.وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد التي عقدت في مايو (أيار) الماضي، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار. وأهمية هذه الانتخابات لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل بكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، فيما يسعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى إحداث تغيير عبر خوضه الانتخابات مع أوسع تحالف.وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية، يكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية لخوض الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. فالسوداني يرى أن دور بغداد يكمن في «جمع الأشقاء، كما هو دورها التاريخي، من أجل صياغة رؤية استراتيجية للمستقبل تضمن الأمن والاستقرار والتنمية والتكامل بين شعوبنا الشقيقة». وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية سيكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية وسط تأهب العراق خلال شهور لإجراء الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. مع هذا، بينما نجح خصوم السوداني في خلق جوّ مشحون أدّى في النهاية إلى تغيّب عدد من الزعماء العرب، فإن بغداد الرسمية التي هيّأت كل مستلزمات نجاح القمة نجحت في الخروج بقرارات مهمة على صعيد العمل العربي المشترك، في ظل تحديات غير مسبوقة.

وعلى الجانب الآخر، كان ضمن الإيجابيات ما كتبت عنه مئات من وسائل الإعلام العربية التي شاركت في القمة. إذ توزّع الإعلاميون العرب على 3 فنادق كبرى بالعاصمة العراقية بغداد، هي «الرشيد» و«قلب العالم» و«موفنبيك»، وتمكّنوا من تغطية وقائع القمة، من «القصر الرئاسي»، بفضل تسهيلات غير مسبوقة قدّمتها لهم الجهات العراقية الرسمية.

وكذلك غطّوا أجواء بغداد، التي لم تعد تنام الليل وسط حالة من الأمن والأمان بالقياس إلى فترات سابقة، خصوصاً أيام قمة بغداد السابقة عام 2012، حين أغلقت العاصمة تماماً، وفرض حظر التجوال لمدة 3 أيام تجنباً للتفجيرات والخروق الأمنية.

ملاعق القمة!

من جهة ثانية، عمليات «التسقيط» السياسي، التي سبقت القمة بأيام، استمرت بعدها بأيام، وكانت من قبل نوعين من الجهات داخل العراق. الجهة الأولى، هي التي لا تريد أي انفتاح عراقي على محيطه العربي أو أي انفتاح عربي على العراق. والجهة الثانية، هي التي لديها خصومات مع محمد شيّاع السوداني وحكومته نظراً لما تحقق خلال السنتين ونصف السنة الماضية من «لمسات»، سواء في بغداد أو في عدد من المحافظات، وهو ما قد يرفع أسهم رئيس الوزراء خلال الانتخابات البرلمانية نهاية العام الحالي.

الجهة الأولى فشلت في تحقيق هدفها، أي منع أي انفتاح متبادل بين العراق ومحيطه العربي، نظراً لما تحقق خلال القمة التي لم تقاطعها أي دولة عربية، بصرف النظر عن مستوى التمثيل. أما الجهة الثانية، فراحت في سياق «حربها» ضد القمة إلى البحث عن تفاصيل لا تعني أحداً، كالكلام عن استيراد ملاعق طعام (باللهجة العراقية «خواشيق») بنحو 12 مليون دولار أميركي. وللعلم، عندما قدّمت وجبة الطعام الوحيدة للزعماء العرب بعد الجلسة الأولى لم يكن لافتاً وجود ملاعق ذات ميزة مختلفة عما يقدم من ملاعق في أي وجبة طعام رئاسية أو ملوكية.

وطبعاً، كان الجانب الآخر من مساعي هذه الجهة زعمها أنها هي التي «منعت مشاركة عدد من الزعماء العرب» الذين تناوئهم أطرافها في بغداد، وفي مقدمهم الرئيس السوري أحمد الشرع، فضلاً عن الرئيس اللبناني جوزيف عون، الذي زار العراق بعد القمة، إثر تسوية، ما بدا أنها تصريحات أثارت لغطاً داخل العراق عن «الحشد الشعبي».

أجواء «التسخين»

في أي حال، لا يمرّ شيء مروراً عابراً في العراق. فبعد انتهاء القمة، وعودة الأجواء إلى طبيعتها، تلقت بغداد الرسمية عشرات التقارير عمّا يمكن عدّه وقائع مهمّة، إن كان على صعيد الرصد الإعلامي، أو المواقف السياسية. هذا الأمر بات يهيئ لمخرجات جديدة، تمثلت أساساً في رهانات بغداد لربطها جذرياً مع محيطها العربي والإقليمي في شراكات سياسية أو اقتصادية. وفي الوقت عينه، بدأت معركة موازية، بدأت بين مختلف الأطراف المناوئة لتطلعات السوداني للفوز بولاية ثانية. هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار.

أزمة حكم أم سلطة؟

في الواقع، ثمة «أزمة حكم» في العراق يراها مراقبون الآن «أزمة سلطة». والسبب تعدد الولاءات، وكون الآيديولوجيات والعقائد ليست وليدة الظروف الراهنة التي يمرّ بها العراق لدى تأهبه للاستحقاق الانتخابي السادس، بل أضحت عنواناً بارزاً لكل المراحل السابقة بعد عام 2003. وخصوصاً مع إسقاط دبابة أميركية تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد، صبيحة 9 أبريل (نيسان) 2003. مع سقوط التمثال، انتهت حقبة من أزمة الحكم والسلطة الفردية في العراق، لتبدأ البلاد جولة جديدة من الأزمات السياسية.

هذه الجولة احتوت ظاهراً كل عناصر النجاح؛ من تداول سلمي للسلطة، وإجراء انتخابات في موعدها، وانتخاب برلمان، وتشكيل حكومة. إلا أنها حقّاً حملت وتحمل كثيراً من بذور الفشل بسبب الديمقراطية المشوهة والانقسامين الطائفي والعرقي، ما انعكس في توزيع المناصب على ضوء هذه المعادلة المذهبية العرقية، بدءاً من منصب رئيس الجمهورية، وصولاً إلى «فرّاشي» المدارس الابتدائية.

لذا، مع بدء التحضير للجولة السادسة من الانتخابات، باتت أزمة الحكم تلقي بظلالها الثقيلة على إمكانية تعديل طبيعة النظام الديمقراطي الذي توافق عليه العراقيون بعد عام 2003. ومع أن الانتخابات المقبلة، وهي السادسة بعد أول انتخابات عام 2005، إثر إقرار أول دستور دائم في العام ذاته، فإن التحضيرات لإجرائها تبدو اختباراً حاسماً يثير سؤالاً محورياً في مختلف الأوساط، هو؛ هل ستكون هذه الانتخابات فرصة حقيقية للتغيير... أم مجرّد حلقة إضافية في تكريس أزمة الحكم؟

للطائفية عنوان

المؤشرات المتاحة، ولغة الأرقام بشأن حجم الأموال التي تضخّ في هذه الانتخابات، والتصاعد الواضح في الخطابين الطائفي والعرقي، كلها ترجّح كفة التشاؤم. إذ تبدو فرص التغيير أمنية بعيدة المنال، بينما تزداد المؤشرات على استمرار «سمات الفشل» التي حكمت المشهد السياسي في العقدَيْن الماضيين.

ويضاعف من حجم التساؤلات غياب التغيير الحقيقي، حتى في أبسط الجوانب الخدمية، كملف الكهرباء، وهو الشريان الحيوي للحياة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. فمع أن العراق يُعدّ من أغنى دول المنطقة من حيث الموارد المالية، تشير التقارير الرسمية إلى أنه ينفق سنوياً ما يقارب 7 مليارات دولار على قطاع الكهرباء، في حين بلغ مجموع ما أُنفق على هذا القطاع منذ عام 2003 نحو 200 مليار دولار، من دون تحقيق تحسّن ملموس.

وإلى جانب أزمة الكهرباء، تعاني بقية القطاعات الخدمية والإنتاجية من ركود واضح، باستثناء تطوّرات محدودة شهدتها السنتان الأخيرتان من عمر حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني. إذ نجحت هذه الحكومة في إحداث تحوّل ملحوظ في البنية الخدمية للعاصمة بغداد، نال إشادة واسعة من أوساط سياسية وإعلامية، خصوصاً خلال القمة العربية الأخيرة في بغداد.

وعلى الرغم من ذلك، للصورة جانب آخر، يتمثّل في طبيعة إدارة الحكم وآليات توزيع السلطة والمناصب في العراق، فضلاً عن التداخل بين القوات الرسمية للدولة وقوى مسلحة أخرى، بعضها اكتسب صفة رسمية مثل «الحشد الشعبي»، رغم استمرار الجدل حول موقع الفصائل المسلحة داخله، ومدى خضوعها للقيادة الرسمية. وأيضاً، هناك «فصائل مسلحة» لا تتلقى أوامرها من الحكومة العراقية، بل تعدّ نفسها مرتبطة بتكليف «شرعي» صادر عن القيادة الإيرانية، خصوصاً إبان مرحلة ما عُرف بـ«محور الممانعة» المنهار بعد نحو سنتين من عملية «طوفان الأقصى». واستطراداً، لا يمكن إغفال وجود قوات «البيشمركة» الكردية التي تُعدّ جزءاً آخر من هذا التعدد الأمني والعسكري المعقّد.

وهكذا، من أبرز الإشكاليات البنيوية التي تواجه السلطة العراقية، تعدّد مراكز القرار وتضارب الصلاحيات، في ظل دستور عام 2005 الذي لم يمنح وضوحاً كافياً في توزيع السلطات والأدوار بين مختلف مستويات الحكم. وكمثال، لا يتعلق الخلاف بين بغداد وأربيل، بمسألة تحويل الأموال أو دفع رواتب موظفي إقليم كردستان فقط، بل يعود أساساً إلى إشكالية دستورية أعمق، ترتبط بطبيعة النظام الفيدرالي نفسه.

فعقب التغيير في عام 2003، كان الكرد والشيعة، لكونهما أبرز أطراف المعارضة لنظام صدام حسين، على توافق شبه كامل، تُرجم في صياغة سريعة لدستور عام 2005، وفي تبني نموذج فيدرالي للحكم من دون التعمّق في تبعاته المستقبلية، ومن دون أن يُحسب حساب ما قد تؤول إليه الأمور لاحقاً. ولكن بعد مرور عقدَيْن، تحولت العلاقة الثنائية من تحالف إلى خصومة مستحكمة دائمة.

الخلل في الدستور

السبب الجوهري لذلك يكمن في بنية النظام السياسي. إذ تبيّن أن الدستور الذي كان ثمرة اتفاق مرحلي، أصبح اليوم عبئاً مشتركاً بين الطرفَيْن. ثم إن الفيدرالية، التي منحت للكرد مرونة سياسية من قِبل الأطراف الشيعية في تلك المرحلة، تحولت إلى أزمة حكم، ولا سيما بعدما أحكمت القوى الشيعية، بحكم غالبيتها السكانية، سيطرتها الكاملة على مؤسسات الدولة، ما هزّ التوازن السياسي تماماً. في ظل هذه الأجواء يتجه العراقيون نحو الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقررة بنهاية العام الحالي، وسط أجواء مشحونة بالمال، باتت موضع جدل واسع حتى داخل أروقة الطبقة السياسية، ولا سيّما قيادات الصفّ الأول.

لكن التمويل الانتخابي لا يقتصر على الجانب المالي فحسب، بل امتدّ ليشمل التحريض الطائفي والعرقي، واستثمار قضايا اجتماعية وثقافية قابلة للتسييس، بهدف التأثير على جمهور متنوّع في وعيه وثقافته وانتماءاته، ما يجعله عرضة للاختراق والتوجيه.

كذلك يميّز المشهد الحالي، للمرة الأولى منذ 2003، أن الطبقة السياسية بدأت تشعر بوجود تهديد فعلي لمواقعها ونفوذها، في ضوء متغيرات إقليمية لافتة في محيط العراق، عربياً وإيرانياً. وعليه، تُشكل الانتخابات المقبلة نقطة مفصلية؛ فإما تكون فرصة لبعض القوى لإحداث تغيير حقيقي في معادلة توزيع المناصب السيادية العليا، أو تتحول كالعادة إلى «محطة» أخرى على «سكة» تكريس أزمة الحكم، التي لا تتجاوز كونها توزيعاً تقنياً لمقاعد البرلمان، تُبنى عليه محاصصة سياسية للوزارات والمناصب، من دون أي مساس جوهري ببنية النظام أو الدستور، ما يعني في نهاية المطاف بقاء الوضع على ما هو عليه.

محمد شياع السوداني (رووداو)

بغداد وأربيل... الإشكالية الدائمة

> في ضوء كل ما يمكن تسليط الضوء عليه عراقياً، يستحيل تخطي العلاقة المتشابكة والمتداخلة بين الحكومة العراقية وسلطة إقليم كردستان العراق. فهي تمثّل جوهر أزمة الحكم في ظل دولة تعددية اختارت طبقاً للدستور النظام الفيدرالي، لكنها أخفقت في تطبيقه كما يجب. وفي حين يقال إن القوى السياسية المهيمنة في بغداد تستغل الخلافات الحزبية - الحزبية في أربيل، فإنه وبالتزامن مع تحذير رئيس حكومة «الإقليم» مسرور بارزاني لبغداد - مذكراً إياها بنتائج «سياسة التجويع» - دخلت واشنطن على خط الأزمة، وإن بمنظور مختلف نسبياً. بغداد تراهن على خلافات بدأت تطفو على السطح بين الأحزاب الكردية بشأن أزمة الرواتب، بينما تراهن أربيل على المواقف الدولية، وخصوصاً موقف واشنطن الداعم، ولقد جاءت دعوة وزارة الخارجية الأميركية بشأن أزمة الرواتب موجهة، ليست للحكومة الاتحادية فقط، بل لحكومة الإقليم. وفي حين بدا موقف «الاتحاد الوطني الكردستاني» بزعامة بافل طالباني بشأن الأزمة مع بغداد مختلفاً عن موقف «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وحكومة الإقليم، قررت بغداد عدم إرسالها الوفد الرسمي الحكومي والحزبي للتباحث بشأن أزمة الرواتب، بعد إعلانه الأسبوع الماضي عزمها على إرسال وفد رفيع المستوى بزعامة هادي العامري زعيم منظمة «بدر» المقرّب من الزعيم الكردي مسعود بارزاني. وفي سياق الجدل بين الطرفين، الذي يبدو أنه آخذ بالتصاعد، وبينما تنشط أطراف من «الإطار التنسيقي» في اللعب على وتر الخلاف بين الحزبين الكرديين الكبيرين في السليمانية وأربيل، دعا الموقف الأميركي الرسمي الطرفين إلى حل الخلاف، ورآه مراقبون حيادياً من شأنه تعزيز أوراق بغداد في سياق أي مباحثات رسمية أو موازية بين الجانبين.