غالية قباني
كاتبة وروائية سورية مقيمة في بريطانيا من اسرة «الشرق الأوسط»
TT

المريضة السورية

كانت مدينة صيدا الساحلية في الجنوب اللبناني على قائمة مدن العالم التي أحلم برؤيتها في زيارتي، حيث تجذبني لها خصوصا صور قلعتها الأثرية التي يحضنها ساحل شرق المتوسط الممتد من سوريا الى فلسطين مرورا بلبنان.
وقد فعلت ذلك قبل 3 أسابيع، حيث زرت صيدا زيارة سريعة أثناء سفري للبنان للقاء بعض أفراد عائلتي الذين لم ألتقهم منذ 5 سنين بسبب الأزمة السورية. إلا اني في ذلك اليوم كنت مصابة بالانفلونزا، وكان نهار صيدا مصابا بريح آذار المتقلبة، فلم أتمتع بطعم المدينة كما يجب، وعدت منها وفي ذهني صورة باهتة عنها. ثم انتبهت الى أني لم أتمتع بطعم بيروت العاصمة ايضا؛ أنا التي تقع بغرام الأمكنة وتقيم معها علاقة خاصة تدوم على الأقل في الذاكرة. فقد مررت على لبنان مرور الريح التي وسمت أيام الزيارة. جاءت المريضة السورية محصنة بالحنين الى وطن راقبته يهبط الى الحضيض حجرا حجرا، وشعب يتسرب الى كل شقوق النجاة ما استطاع اليها سبيلا، فسقط بعضه في مصائد الموت وأشفقت الأقدار على آخرين فوجدوا أنفسهم في شباك أخرى من الغربة او الشعور بالضياع في مجتمعات اللجوء.
لم أشعر بطعم لبنان في زيارتي، وكنت أبحث في بيروت وصيدا عما يشبه دمشق وحلب، وعما يشبه الطريق الدولي الواصل بينهما بكل القرى والبلدات والمدن التي تطل عليه او يتفرع الطريق اليها منه. لكني عدت خائبة من رحلة البحث.
والآن بعد عودتي من الزيارة، أرى عن بعد وكأني قاومت في اللاوعي الوقوع بحب مدينة منافسة لمدينتيّ الأحب الى قلبي بين كل المدن في العالم، فلا الأحياء الشعبية أجمل من حارات حلب ودمشق القديمة، ولا الأسواق او الأبنية الاثرية، في بيروت وصيدا، كذلك. وقد تراءى لي سوق صيدا يشبه سوق أربيل في كردستان العراق أكثر مما يمكن ان يقارن بسوق الحميدية بدمشق؛ الذي تحول الى مركز خدمات للميليشيات الايرانية المقاتلة في سوريا، وكذلك لا يشبه فخامة سوق "المدينة" في حلب المدرج ضمن التراث العالمي لـ"اليونيسكو"؛ والذي احترق بنيران الحرب التي جعلته إحدى ضحاياها.
اعتذر للبنان (الذي ترسخ صورته في ذهني جميلا) لأني استخدمته مكانا محايدا لرؤية أحبة باعدت الحرب في سوريا بيني وبينهم. جئته وأنا المريضة بحب بلد مجاور، فوجدته غير معافى يرزح تحت حمى تقسيماته الطائفية والسياسية، وأصابني هواؤه المريض بجهازي التنفسي لتكتمل التسمية في الروح والجسد معا. فغادرته كما وصلت اليه، غريبة لم يمس شغاف قلبها أي تفصيل في الجغرافيا.
يال لبنان المريض! كيف كان قادرا خلال سنوات خمس على التعامل مع المرض السوري وضحاياه، بآلية الأمر الواقع الذي تحصل على مناعة من حرب أهلية طويلة سابقة، وبرغبة في عدم السقوط في فخ الهلاك. إنها حكمة التمسك بالحياة وإدراك مدى ارتباط البلدين الجارين بمصير مشترك في المستقبل كما ارتبطا عبر التاريخ، ما يعني أن أحدهما عليه ان يسند الآخر في الملمات لحين عودة الجار الى حياته الطبيعية وشفائه من جروح الأزمات. هذا هو الواقع الذي فرض نفسه على لبنان ولو حاول بعض ساسته حرف المسار الى ما هو غير منطقي في حركة التاريخ.